المفاوضات على الأرض لا يمكن فصلها عن أروقة جنيف، رغم أنها تخالف فحواه التي تقوم على فرض هدنة بين المتحاربين كانت موسكو قد أشرفت على توقيع بنودها النظرية في أستانة قبيل الذهاب إلى جنيف.العرب ثائر الزعزوع [نُشر في 2017/03/03، العدد: 10560، ص(8)] تشير كافة المعطيات التي وصلت إليها الأيام الماضية من مفاوضات جنيف 4 بين وفود المعارضات السورية من جهة، وبين وفد نظام دمشق من جهة أخرى، إلى أن هذه المفاوضات لن تحرز تقدما يذكر ولن تكون طوق نجاة لسوريا التي تكاد تغرق في لجة محيط من الحروب التي لا تنتهي، وهي غارقة فيه أصلا. إلا أن مفاوضات من نوع آخر تجري بعيدا هناك على الأرض السورية، قد تكون أكبر تأثيرا وستكون انعكاساتها وتداعياتها حاسمة أكثر من تضييع الوقت في تنظيم أوراق عمل تتطاير مع تصريح طائش قد يصدر عن هذا الطرف أو ذاك، أو “حرد” سياسي شبيه بذلك الذي حدث في جنيف 3. المفاوضات على الأرض لا يمكن فصلها عن أروقة جنيف، رغم أنها تخالف فحواه التي تقوم أصلا على فرض هدنة بين المتحاربين كانت موسكو قد أشرفت على توقيع بنودها النظرية في العاصمة الكازاخية أستانة قبيل الذهاب إلى مدينة جنيف بأيام قليلة، وتعهدت موسكو نفسها بأن تسهر على تنفيذها، لكنها لم تفلح ولا نظن أنها ستفلح، لذلك نـراها تبحث عـن سبل أكثر نجاعة ولا تستبعد اللجوء إلى الحل الأميركي – التركي الذي يقترح إقامة مناطق آمنة شمال البلاد وجنوبها، ربما تفصل ما بين المتحاربين وتضمن لمن تبقى من المدنيين أن ينعموا بالسلام أخيرا بعد قرابة ست سنوات من القصف والتدمير المتواصل. تلك المفاوضات الدموية لم تبدأ بانفجار هزّ أركان المربع الأمني في مدينة حمص وأودى بحياة العشرات من القتلى من القوات الأمنية بينهم ضابطان كبيران، لكنها بدأت قبل ذلك بغارات مازالت مستمرة حتى الآن على مدينة درعا جنوبا، وعلى مناطق غوطة دمشق الشرقية التي مازالت خارجة على سيطرة النظام، وعلى مناطق متفرقة في ريفي حلب وإدلب كانت حصيلتها العشرات من الضحايا من المدنيين. كل ذلك بالتزامن مع سباق محموم على الأرض تقوم به قوات النظـام المدعومة بغطاء جوي – روسي باتجاه بعض المناطق في ريف حلب، مدينة الباب خاصة، والتي استطاع الجيش الحر المدعوم من تركيا طرد عناصر تنظيم داعش منها، وهو يستعد للتقدم أكثر في منطقة تريدها تركيا خالية من عدوين أساسيين لها، تنظيم داعش من جهة والقوات الكردية من جهة أخرى، والتي سارعت بدورها إلى التقدم باتجاه معاقل تنظيم داعش في مدينة دير الـزور، وهي مدعومة بغطـاء أميركي. دون أن ننسى أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تبدو جادة أكثر من سابقتها في موضوع القضاء على تنظيم داعش وإنهائه.علينا ألا ننشغل بمتابعة مفاوضات على الورق نعلم سلفا أنها لن تصل إلى نتيجة، فلا رأس النظام في دمشق سيوافق على الرحيل طواعية، ولا المعارضة تستطيع القبول ببقائه حاكما (إلى الأبد) ولذلك فهي قد تسرّع من وتيرة تلك العمليات التي تقوم بها القوات الكردية، وسـوف لن تـدخر جهدا في دعمها وإسنـادها، لا بغطـاء جوي فقط ولكن بقدرات وقوات عسكرية على الأرض، ويبدو أن الزيارة الخاطفة التي قام بها السناتور الجمهوري البارز جون ماكين تندرج ضمن هذه الخطة الأميركية، دون أن نغفل ما قد يحدثه الدعم الأميركي لتلك القوات الكردية من استيـاء تركي قـد ينعكـس سلبـا على تقـدم العمليـة، وقـد يؤخـر الوصول إلى مدينة الرقة العاصمة السورية لتنظيم داعش. ويبدو أن نظام دمشق قد تلقى الرسالة الأميركية التي لم تكن موجهة إليه أصلا، لذلك فقد بادر إلى الإعلان أنه ماض في طريقه لطرد تنظيم داعش وتطهير البلاد من وجوده، رغم أن بشار الأسد كان قد استبعد في أوقات سابقة التنظيم من أجندته، واعتبر أن حربه على ما يسمّيه بـ“المؤامرة الكونية”، والتي يقصد بها الثورة الشعبية ضد نظامه، تتصدر سلم أولوياته وسيأتي دور تنظيم داعش لاحقا. فالتنظيم وكما هو معلوم للجميع يقبع في مدينة تدمر آمنا، وهي أقرب جغرافيا بالنسبة إلى العاصمة دمشق من مدينة حلب، وقد يكون طرده من المدينة الأثرية أكثر جدوى من الناحية الاستراتيجية من ملاحقة فلول التنظيم في أطراف مدينة الباب، إلا إذا كان القصد من هذا التحرك فعلا هو استدراج تركيا إلى مواجهة مباشرة تكون كفيلة بقلب المعادلة رأسا على عقب. وكان علي حيدر، وزير المصالحة الوطنية في حكومة النظام، لم يستبعد إمكانية المواجهة العسكرية مع تركيا، رغم أنه يدرك كما كافة أركان نظام دمشق، أن قوات النظام السوري أو ما تبقى منها ليست قادرة على خوض مواجهة مباشرة مع فصائل الجيش الحر، فكيف الحال مع الجيش التركي؟ ودون أن نسقط من حساباتنا حالة التلاسن وتبادل الاتهامات التي بدأت بالتصاعد مؤخرا بين كل من أنقرة وطهران الحامي الرئيس لنظام الأسد، مع أننا نتوقع أنها لن تتطور إلى أكثر من ذلك، إلا أن كل ذلك مجتمعا يشكل توزيعا جديدا للأوراق ليست روسيا ولا الولايات المتحدة بغائبتين عنه، بل إنهما حاضرتان بقوة في كل تفاصيله، وهو ما سوف ينعكس لاحقا على ما يسمّى بـ“التسوية” السياسية للمسألة السورية. علينا أن نراقب ما يحدث على الأرض دون أن ننشغل كثيرا بمتابعة مفاوضات على الورق نعلم سلفا أنها لن تصل إلى نتيجة، فلا رأس النظام في دمشق سيوافق على الرحيل طواعية، ولا المعارضة تستطيع القبول ببقائه حاكما “إلى الأبد”. كاتب سوري ثائر الزعزوع
مشاركة :