«هدير الجبل» لكاواباتا: الهمس القاسي في حياة عائلية مفككة

  • 3/3/2017
  • 00:00
  • 37
  • 0
  • 0
news-picture

على عكس ما قد يوحي به عنوان رواية «هدير الجبل»، التي تعتبر الأطول من ناحية عدد صفحاتها في إنتاج الكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا، لسنا في الحقيقة هنا أمام رواية تدور حوادثها في أرجاء الطبيعة أو في مناطق جبلية، بل في صدد رواية مدينية تتحلق من حول عائلة من الطبقات الوسطى وتتوالى فصولها وسط بيئة مفعمة بالمشاعر والأحاسيس الخاصة والعامة التي يعيشها أفراد تلك العائلة. فعلى مدى يقرب من 250 صفحة في الأصل الياباني، يغوص بنا الكاتب - الذي لم يعتد أبداً على إنفاق كل هذا العدد من الصفحات على رواية واحدة، في أعماق شخصيات روايته، أو في شكل أكثر تحديداً، في أعماق شخصيته الرئيسة، رب العائلة العجوز الذي بدأ منذ فترة يسمع هدير جبل يئز داخل رأسه. وهو يفهم من هذا أن نهايته اقتربت ولم يعد لديه ما يكفي من الزمن في عيشه، كي يصر على تحقيق ما تبقى من أحلامه، فلا يكون أمامه إلا أن يكتفي ببعض الأحلام الصغيرة كما سوف نرى. > رب العائلة هذا هو شنغو أوغاتا، رجل الأعمال في طوكيو والذي يعيش في ضاحية كاماكورا مع زوجته يازوكو وابنته المطلقة فوزاكو وابنه شويشي وزوجة هذا الأخير كيكوكو التي سرعان ما سنكتشف من طريق حميها أنها لا تشعر بالسعادة بالنظر الى إحساسها بأن زوجها الشاب يخونها وهي لا تجرؤ على استخلاص أية نتائج عملية من ذلك الوضع. لكن الأب العجوز والذي بات يحضر نفسه للتقاعد، يستخلص النتائج بعدما يجعل من سكرتيرته عيناً له تطلعه على خيانة الشاب وأسماء عشيقاته. في البداية يحاول الأب ردع ابنه لكن هذا لا يرتدع، فلا يكون من ناحية الأب، الذي يشعر أصلاً بتعاطف، يصل الى حد الإعجاب الكتوم تجاه زوجة ابنه، إلا أنه يبدأ بإظهار ذلك التعاطف محولاً إياه الى رغبات فيها تراوده ليلاً في أحلامه. وإذ تتنبه زوجته الى هذا تستشعر غيرة إزاء زوجة ابنها تذكرها - بكل مرارة - بهيام زوجها أول زواجهما بأختها الحسناء التي ما لبثت أن رحلت... وهكذا تتعقد الحياة المنزلية ولا سيما أن ابنة شنغو المطلقة فوزاكو تشعر هي الأخرى بما يدور من حولها وتتأثر به عميقاً فيما لا يبدو على الابن أي تأثر... > كل هذا الوضع الذي يتناوب كاواباتا على التوغل فيه عبر صفحات الرواية ملتقطاً أقل التفاصيل راسماً حدود العلاقات وتركّبها وانفكاكها تباعاً بين الشخصيات، يحول الرواية التي هي نوع من الدفق الداخلي والحوارات الى طبقات من كلام تقول أموراً متعددة المعاني في الوقت نفسه. والحال ان الكاتب يوصلنا الى ذروة تلك العلاقة بين الحوار والعواطف الداخلية في فصل أخير من روايته يحصره، في متنزه عام يكاد يكون خالياً، بين الأب وزوجة الابن إذ واعدها هناك لكي يخبرها بعزمه على الرحيل وزوجته كي يمضيا ما تبقى لهما من أيام، في منطقة ريفية وبيت معزول في انتظار الموت... الموت الذي نجده أصلاً مخيماً على أفكار ويوميات السيد شنغو... كما هي حاله على الدوام في روايات ياسوناري كاواباتا الأخرى. > «قد يكون من السهل الدخول في عالم بوذا، ولكن بالتأكيد من الصعب في الوقت نفسه الدخول في عالم الشياطين... فالحقيقة أن كل فنان يتطلع إلى ما هو حقيقي، إلى ما هو خيّر وجميل بوصفه الغرض النهائي لمسعاه، إنما يكون، بالضرورة، مهووساً برغبته في إجبار نفسه على ولوج ذلك المعبر الصعب إلى عالم الشياطين، وهذه الفكرة، سواء كانت ظاهرة أو مكتومة، إنما تتأرجح بين الخوف والصلاة». ليست هذه الفقرة جزءاً من رواية، بل هي جزء من الخطاب الرسمي الذي ألقاه كاواباتا في ستوكهولم التي توجه إليها أواخر العام 1968 ليتلقى جائزة نوبل الأدبية التي فاز بها لذلك العام. الذين استغــربوا يومها أن هذا الكلام يأتي على لسان كاتب عجوز كان يبدو عليــه في أواخر سنواته أنه بدأ يميل إلى الكلاسيكية في كتاباته، سرعان ما زال استغرابهم بعد ذلك بسنوات قليلة، وبالتحديد في العام 1972 حينما أعلنت الأنباء انتحار كاواباتا في شقة صغيرة كان استأجرها في بلدة زوشي اليابانية غير بعيد من شاطئ البحر. > والحال أن الفترة التي فصلت بين فوز كاواباتا بجائزة نوبل وانتحاره على ذلك الشكل المباغت، كانت فترة وصلت فيها شهرة هذا الكاتب الكبير إلى أعلى ذراها، إذ على الرغم من أن عدداً كبيراً من رواياته كان قد ترجم إلى لغات أجنبية عدة قبل ذلك، فإن كاواباتا كان قد ظل يعتبر كاتباً نخبوياً. بل إن جمهور القراء العريض في اليابان نفسها لم يتعرف إليه جدياً إلا بعد الإعلان عن فوزه بجائزة نوبل. وينطبق هذا الكلام في شكل خاص على رواياته الأولى التي كانت ذات سمات طليعية، تعصى على فهم عموم القراء. > ولد كاواباتا في أوزاكا في 1899، وهو منذ طفولته تضافر لديه عاملان لن يتركاه بعد ذلك أبداً: الوحدة والموت. فهو كان لا يزال طفلاً يافعاً حين فقد أباه وأمه وجدته وشقيقته الوحيدة تباعاً. وهكذا وجد نفسه يعيش تلك الوحدة التي لن تفارقه أبداً، كما يعيش تحت وطأة هاجس الموت الذي سيظل مسيطراً عليه وعلى كتاباته حتى الرمق الأخير. وهذا ما جعل الباحثين يعتبرون كتابة كاواباتا كتابة موت في المقام الأول، وفي شكل أكثر تحديداً: موت يكاد يشبه تدمير الذات، إذ ندر أن كانت هناك رواية أو قصة لهذا الكاتب خلت من أناس يدمرون أنفسهم، قصداً أو من غير قصد. > بدأ كاواباتا حياته الأدبية وهو في السادسة عشرة من عمره حين فقد، في نهاية الأمر، جده العزيز، فوجد نفسه مندفعاً لكتابة نصه الأول «اليوميات الحميمة لعامي السادس عشر» الذي لن ينشر إلا في العام 1925، كما أنه وصف احتضار جده بطريقة مقابرية في نص عنوانه «عظام» كتبه في 1916 لكنه لن ينشره إلا في العام 1945. > ومنذ وفاة جده، خلد كاواباتا إلى عزلته التي لم يكن ينقذه منها سوى الكتابة، إضافة إلى النزهات الخلوية التي اعتاد أن يقوم بها بمفرده فيفكر خلالها ويستلهم منها نصوص روايات سيكتبها لاحقاً، وأولها كانت رواية «راقصة إيزو» التي نشرت للمرة الأولى في 1926. وفي تلك الرواية الذاتية وصف كاواباتا الكيفية التي تمكن بها يتيم فتي من أن يكتشف معنى الحياة وقيمة الطيبة التي مكّنته من التواصل مع الآخرين. والحقيقة أن تلك الفترة كانت الفترة التي بدأ فيها كاواباتا بالخروج، شكلياً، من عزلته، حين تعرّف إلى جماعة من الكتّاب الشبان الذين كوّن معهم جماعة أدبية طليعية أصدرت مجلتين اشتهرتا بعد ذلك كثيراً في تاريخ الأدب الياباني الحديث. غير أن ذلك كله لم يبعد كاواباتا عن هواجسه القديمة التي راح يعبّر عنها في روايات يكتبها تباعاً، متفاوتة الحجم، لكن كتابة كل واحدة منها كانت تستغرق سنوات عدة، ومن أبرزها «بلد الثلوج» (التي تعتبر حتى اليوم أشهر رواية بين رواياته، وهي رواية اشتغل عليها خلال ثلاثة عشر عاماً). وبعدما كانت روايته الشهيرة التالية «سرب من العصافير البيض» ثم «هدير الجبل» التي حولها المخرج الياباني الكبير ميكيو ناروزي في العام 1954، أي بعد صدورها كرواية بخمس سنوات، الى فيلم حمل العنوان نفسه وجاء شديد الأمانة للنص الروائي. ويرى بعض الباحثين أن هذه الروايات الثلاث تشكل في ما بينها ثلاثية عن الحب والموت كتبت بلغة طليعية. > بعد ذلك، لم يتوقف كاواباتا عن الكتابة، فظهرت له روايات كانت قد باتت أكثر دنواً من الكلاسيكية من بينها «الراقصة» و «البحيرة» و «أن تكوني امرأة» و «كيوكو، العاصمة القديمة» وأخيراً «الحسناوات النائمات» ذات النزعة الإباحية الواضحة والتي استوحى منها الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز أجواء روايته الأخيرة «ذكرى عاهراتي الحزانى». وكل تلك الروايات جعلت من كاواباتا واحداً من أكبر كتّاب القرن العشرين، لكن ذلك كله لم يخفف من حدة عزلته وهجسه بالموت... فكان انتحاره عمله الأخير.

مشاركة :