بعد رحيل الفنان التشكيلي علي الضمادي هل نقرأ تجربته التراثية

  • 3/4/2017
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

الفن يهذب النفوس ويفرش مساحات الجمال داخل أرواحنا ويجعلنا نشعر بقيمة الجمال من حولنا، وهو اللغة الإنسانية الشاملة بين بني البشر تنقل الشعور والإحساس، ولا يمكن لأي لغة بالعالم أن تنقل هذا الشعور كما ينقله الفن لأنه لغة عالمية ليس لها وطن ولا جنسية هي لغة إنسانية سامية بين البشر تنقلنا عبر ثقافة اللون وإيقاع الصورة الفنية والمؤثرات البصرية والحسية والوجدانية تحرك الدواخل والمكنونات البشرية والتفاعل النفسي بين مختلف الأجناس البشرية دون وجود أدنى قواسم مشتركة بينهم. نحن هنا نتحدث عن الفنون التطبيقية على وجه الخصوص ونتحدث عن رائد من رواد الفنون التطبيقية نتحدث عن فقيد الوطن الذي بكته أدواته ومطرقته وإزميله الذي رافقه أكثر من أربعين عاماً من الإبداع والتعب والجلد والصبر ليسعد من حوله آثر أن يتجه إلى الطريق الشائك المليء بالخامات القاسية من حديد ونحاس ونار وطرق ومسامير لتتفجر بين أنامله أعمالاً فنية إبداعية غاية في الجمال عزف بأنامله فنون الطرق على النحاس بجمال روحه على أسطح النحاس فارتسمت صورة هذه الروح الإنسانية الجميلة أعمالاً إبداعية إنه الفنان والأستاذ القدير علي بن سالم الضمادي - رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته -. فنان تشكيلي استثنائي واصل إبداعه رغم ما عاناه من التجاهل سنوات طويلة لجهل المجتمع وعدم درايته.. فنان سبق عصره في رؤيته للفن والإبداع محب لمجتمعه ولثقافة مجتمعه يريد أن يكون الفن في حائل صورة مشرقة فركب الصعاب لسنوات تجاوزت 40 عاماً من العمل والتميُّز في «الطرْق على النحاس» جعلت من الفنان التشكيلي علي سالم الضمادي اسماً راسخاً في مسيرة فن النحت السعودي وفناناً مبدعاً يستحق كل تقدير. يقول الضمادي إن شغفه بهذا الفن منحه قوة الصمود أمام التجاهل الذي يحس به، كما مكّنه من أدوات هذا الفن الصعب الكؤود «بل إني استطعت أن أمهد لمدرسة وطنية في هذا المجال بشهادة النقّاد والدارسين والمختصين له رغم ما أعانيه صحياً وبدنياً من ممارسة هذا الفن الصعب بدليل أني قدمت الكثير من الأعمال الناجحة وكان يستعد -رحمه الله - لإنتاج 83 عملاً جديداً يتناول عدة أفكار مستمدة من الموروث الشعبي التراثي لدينا في الوطن عموماً وبصفة خاصة في حائل منها لوحات «الحطاب» و«انتظار» و«المغزل» و«إصرار» و«الخشوع» وغيرها». الضمادي الذي ساهم بأعماله في إثراء الحركة التشكيلية السعودية والذي شارك في معارض عدة منها معارض الجنادرية، وفاز بجائزة الجنادرية عام 1415هـ يقول إنه بدأ في مزاولة فن «الطرق على النحاس» بعد أن اكتشف إمكانيات خام النحاس، «وهذا جعلني أقتحم هذا المجال الذي سمح لي بالتعبير عن أفكاري بوضوح».. مضيفاً «لقد زاولت طبعاً الرسم الكلاسيكي وأعتبره الجسر الحقيقي الممتد لخوض أي أشكال العمل الفني لكني وجدت المتعة الحقيقية مع خامة النحاس لأنها بالنسبة لي تعد الأجمل». ولأنه لا وجود لبيئة فنية سعودية تخدم الاتجاه الذي اختاره الضمادي فقد سعى لتثقيف نفسه بنفسه «وسافر لبلدان عربية عديدة والتقى بنخبة من أمهر الفنانين العرب في هذا المجال وأخذ اتجاهات وأفكاراً كثيرة وكبيرة خدمت بدايته، بل إنها كانت مؤثرة في مسيرته وجعلته يعثر على مدرسة خاصة به ميّزته عن الآخرين، وقد اختار الانتماء للمدرسة التعبيرية». مبيناً أنه يستغرق فترة طويلة لتنفيذ أعماله «لأن العمل لا بد أن يكون له قيمة ما ولا بد أن يحوي فكرة قابلة للزيادة أو التجريد ثم تبدأ مرحلة تحديد شكل الفكرة على النحاس ومن ثم يبدأ الطرق بمراحل تعتمد على الصبر والتحدي». لكنه عاد وجدد بالقول إن النحاس من أصعب الخامات عند التعامل معه «لأنه بالفعل فن صعب جداً بحاجة لصبر وعزيمة ويعتبر خامة شرسة وأي خلل أو سقوط في العمل يعتبر انحرافاً غير لائق عن السيناريو الذي رسمه الفنان في ذهنه وهذه مشكلة الطرق على النحاس الأمر الذي يجعلني أكثر دقة في الإنتاج لضمان ظهوره بطريقة جميلة». هذا، وطالب الفنان الضمادي الجهات المسؤولة بالاهتمام بهذا الفن بوصفه شكلاً من أشكال فن الجداريات «لأنه هو الفن الحقيقي» على حد تعبيره، مشيراً إلى أن لديه مشاريع فنية جديدة للوحات جدارية تمتد 8 أمتار وعرض 5 أمتار في حائل تحكي التراث الحائلي، وإظهار الموروث بصورة حضارية جمالية وكذلك مشهد «حاتم الطائي» وحصانه الشهير وكلماته المعروفة، «وقال رحمه الله: أتمنى أن تقوم الجهات المعنية في منطقة حائل ممثلة في الأمانة في تأييد الأفكار والمشاريع الفنية الجدارية التي بالفعل تعد هي المساند للنهوض بمستوى جماليات المدن»، مؤكداً استعداده لتنفيذ مثل هذه الأعمال لصالح المنطقة دون مقابل مادي. وأعرب الضمادي عن استيائه من انتشار المجسّمات في ميادين حائل والتي وصفها بـ«الكتل» غير الفنية والتي لا تتعاطى مع جماليات الفن «لأن الفن الحقيقي هو فن الجداريات وحائل مشهود لها ببيئتها وتضاريسها وهي جاهزة للتميز والإبداع». وتمنى الفنان الضمادي من الجهات المعنية بدعم الإبداع أن تكثف الورش النقدية لأنها هي بالفعل تعزز من دور وسائل الفن بمختلف أشكاله، منتقداً المعارض الفنية التي تقدم حالياً واصفاً إياها بأنها لا تعمل على تحريك الفن ومجالاته «لأنها تعد هدراً للفنان الذي لا يستطيع أن يعمل على إقامتها لتكاليفها الباهظة وعدم وجود رعاة خاصين لها». الضمادي فنان متجدد بأفكاره وفنه يجبرك في كل عمل فني يقدمه على الدهشة والتأمل فيما أبدع، فهو فنان لا يعرف سوى الإتقان في عمله ولا يقبل بأقل من عمل فني جميل، في كل مجال يطرقه يبدع ويتميز ويدهش بفنه وألقه وجماله يقول - رحمه الله -: «اخترت درباً فريداً من دروب الفن تمارسه قلة قليلة على مستوى البلاد والعالم العربي وذلك لصعوبته والتعب البدني الذي يتسبب لممارسيه وهو «الطرق على النحاس» وبفضل من الله تمكنت من أدوات هذا الفن الكؤود وامتلكت ناصيته وأزعم أني استطعت أن أمهد لمدرسة سعودية في هذا المجال بشهادة النقاد والدارسين رغم ما أعانيه صحياً وبدنياً من ممارسة هذا الفن الشاق إلا أني مصر على العطاء والإنتاج بمعدل ثابت ما حقق لي الإشباع الفني وساهم في إثراء الحركة التشكيلية، ودليل ذلك عدد وأنواع المعارض التي شاركت فيها». وعن اهتماماته، قال: «لي اهتمامات بالموسيقى العربية وآلاتها كذلك لي محاولات في الشعر، وأن هذه المحاولات مجرد عبث ليس إلا. بعد تجارب سنوات بدأت بالرسم الكلاسيكي وهو الجسر الحقيقي لخوض العمل مع الخامات، ووجدت نفسي مع خامة النحاس وهي الأجمل والأصعب؛ لأنك تخدم الخامة أكثر مما تخدمك واخترت النحاس لصعوبته ولأن هذه الخامة تؤدي الهدف الحقيقي الذي أريده، فأنا أنتمي للمدرسة التعبيرية المبسطة». يقول الضمادي إن العمل لا بد أن يكون فكرة قابلة للزيادة أو الحذف بعد ذلك تنقل الفكرة على النحاس، وتبدأ بالطرق بمراحل تعتمد على الصبر الدؤوب، مشيراً إلى أن النحاس أصعب الخامات على الإطلاق وخامة شرسة لكنها تعطيك كلما أعطيتها. وقال صديقه الشاعر عثمان المجراد إن شهادة الفنان المصري الكبير سناً ومقاماً إبراهيم عبد الملاك عندما قابله الأستاذ علي الضمادي - رحمه الله - في القاهرة واطلع على بعض أعماله النحاسية وخاصة الحديثة مثل لوحة: الخيل العربي قال الفنان المصري إنه وطوال تاريخه الفني متنقل بين الدول العربية والأوروبية - روما - بالذات لم يشاهد لوحة عن الخيل العربي بهذا التميز والدقة. الضمادي أعماله عبارة عن أشياء تعبيرية تتحدث عن فكر بلا ملامح وكان - رحمه الله - لديه مشروع عبارة عن لوحة جدارية تمتد 18 متراً وعرض 3 أمتار في حائل تحكي التراث الحائلي وقصة حاتم الطائي وحصانه وكلماته الشهيرة، وقد أبدى عتبه على مطار حائل لِمَ لا يكون في صالات انتظاره عرض للوحات الفنية التي تحكي ثراث حائل وفنونها. هذا المبدع الشمالي جاء إلى الفن كما جاءه الفن، فكان الالتقاء والتلاحم وكان الطرق على النحاس وكانت تتفتق من بين أصابعه لوحات ناطقة تحكي الموروث التاريخي والثقافي لحائل. وحينما يُسأل الضمادي متى كانت بداية التوجه إلى عالم الفن التشكيلي؟ - دائما يقول يصعب تحديد المرحلة ولكن أتحدث بشكل عام, منذ أن وعيت وجدت نفسي داخل هذا العالم حيث متعتي الروحية والمتنفس الحقيقي ومنذ أن وعيت وجدتني أدور في هذا الفلك بغموضه ووضوحه. وفي بداية الفنان لا بد في البداية من المرور على جميع المدارس الفنية دون استثناء، لكي يخلص الفنان إلى تجربة حقيقية ويثري نفسه ومن ثم ينهج نهجاً خاصاً به يميزه عن غيره ويكون بعيداً عن دائرة المألوف ولا يكون ظلاً لأحد. * سُئل يوماً عن الفنانات التشكيليات السعوديات، وقال إنه معجب بتجربة الفنانة السعودية التشكيلية الرائدة صفية بنت زقر وكذلك الفنانة فوزية عبد اللطيف والفنانة بدرية الناصر ورضية البرقاوي وأخريات لهن بصمتهن الواضحة والجلية. * يقترح الضمادي دائماً دعم المواهب الواعدة وتشجيع أصحاب الأساليب المميزة والجديدة وغير المسبوقة والإكثار من المعارض الجماعية الطوافة لما لها من مردود إيجابي للتعارف وتلاقح الأفكار وتبادل الخبرات. * وإذا أردنا أن نعرف متى اتجه علي الضمادي - رحمه الله - إلى خامة النحاس؟ قال الضمادي: لقد خضت تجارب عديدة مع خامات عديدة، ولكني آثرت خامة النحاس دون غيرها لأنها خامة جديدة على الوسط التشكيلي ولكونها خامة عنيدة وعتيقة وتحتاج إلى كتلة من الصبر والجلد، لكنها تعطي من يعطيها وتخرج أعمالاً غاية في الجمال. علي الضمادي يكاد يكون التشكيلي الوحيد الذي يجيد الطرق على النحاس بوعي وإدراك وتقنية عالية لا يجيدها إلا الضمادي نفسه. لقد أثبت أنه أستاذ الطرق على النحاس بلا منازع على الرغم من أن هذا النوع من الفن التشكيلي يتطلب مهارة ومهنية وقدرة متناهية وظروف ومناخات كما يقول الفنان نفسه وهو بالفعل من الفنون الصعبة إلا أن الضمادي بما يملكه من قدرات فنية وتقنية وثقافية عالية في هذا الجانب استطاع أن يكون الرقم واحداً في هذا المجال خاصة إذا علمنا أن الفنان علي مر بظروف صحية تؤثر في عطائه إلا أنه أيضاً بفضل الله ثم بفضل حبه لهذا الفن وقدرته وخبرته تواصل مع هذا النوع من الإبداع الجمالي الصعب. أما حكاية غيابه عن الضوء والإعلام أو غياب الإعلام عنه فهذه إشكالية نعاني منها هنا بشكل يدعو للتساؤل لأن الإعلام يظل شريكاً في الإبداع بل هو جزء مهم مكمل للعملية الإبداعية أيا كانت.. وهو دائماً يؤثر الغياب ويتوارى الضمادي خلف إبداعه ويرفض الأضواء وأناً شخصيا حاولت معه كثيراً لعمل حلقة تلفزيونية معه دون جدوى وفي إحدى المرات وسطت صديقة العزيز صديقنا الشاعر عثمان المجراد وقد اشتغلنا عليه سوياً ووافق إلى آخر لحظة ولكنه وقبل التسجيل اتصل علي معتذراً بشدة. فنان متجدد بأفكاره وفنه يجبرك في كل عمل فني يقدمه على الدهشة والتأمل فيما أبدع، فهو فنان لا يعرف سوى الإتقان في عمله ولا يقبل بأقل من عمل فني تبرز هوية الأفكار الأولى التي أراد لها الفنان أن تكون ميداناً للسؤال عبر خريطة الرؤى المستقبلية والمشاريع الإبداعية والتي تتيح للفنان خصوصية العمل الفني بين أقرانه في الجيل الواحد وبخاصة إذا كانت الخامة ذات أشكال فلسفية من الأساس كخامة النحاس. الأستاذ القدير أحمد إبراهيم تناول تجربة الفنان السعودي علي الضمادي التشكيلية قائلاً: سنوات من العمل بصمت وبطء والاكتواء بقسوة خامة العمل وعشق ملمسها ومداعبته لها بأزاميله ومطرقته، وقال: تتلوى صفائح النحاس القاسية بين يديه في ليونة أنثى، وإذا بالسطح الأملس عديم الشخصية تنفجر خفاياه، وتنطق بحوار بصري ولمسي فريد. وشبه أعمال الضمادي بأعمال المصور، وقال: قد يكون رساماً متميزاً خطوطه شديدة القوة والجرأة والوضوح، تصنع المساحات المتفجرة بالحركة، والكتل المتحدية التي تجبر العين على الحركة على السطح في اتجاه تقوده الخطوط، إلا أنه في مجال الطرق على النحاس يبقى علامة فارقة يصعب مقارنتها بأحد آخر، واعتبر الضمادي سارق حرفة التعامل مع المعادن من زمن النبي داود، ووصفه بالمُعاني من النار والمطارق وقسوة المعادن بحب عجيب، واعتبر أصابع الضمادي شاعرة وخياله مغرقاً في الحيوية، وروحه مسكونة بتراث شعبه وأمته في أجمل تجلياته، وأكثرها إنسانية، ثم قال: ذات الضمادي مسرفة في الذوبان في البيئة، وامتصاص عناصرها بحب ووله، واكتناز كل ذلك وهضمه، ثم إعادة إنتاجه في إبداع يستلهم كل العناصر، واعتبره يعمل على تقديم وجبة بصرية شهية مؤسسة على قواعد الفن الحقيقي الراقية، معللاً ذلك بامتلاك الضمادي لموهبة رائعة تساندها خبرة تقنية لا تقل عنها روعة، وأن ما ينتجه الضمادي يجبر العين أن تتلمس كأصابع مدربة هذه النقلات النغمية في ملمس السطح الذي لا يسمح بوجود أي مساحة عديمة التشكيل، وتملأ المشهد بالأجسام التي كانت مألوفة لنا بعد أن حولها الخيال الخصيب، والمهارة الفنية إلى جمال بديع مكون من كتل ومساحات هندسية تتحاور في حب أحياناً، وعنف أحياناً أخرى، وتتجاور، وتتفرق في حوار لا ينتهي. وأنهى ورقته قائلاً: قلبي مع هذا الرجل يوم تجبره السنون أن يستثقل حمل المطرقة، ويصعب عليه احتضان لوح النحاس الثقيل، ليضعه فوق سندانة المتحرك ليمارس أغرب عشق.. العشق بين المطرقة والسندان لكن عزاءك يا صديقي أن كل قطعة مما أبدعت سوف تبقى كما بقيت آثار الفراعين، والبابليين، واليونان والرومان، فسواء كنت أنت الذي اخترت الخامة، أو هي التي اختارتك، فقد اتفقتما على الخلود. وتميزت أعماله بالأصالة والارتباط بالمكان وثقافته فمعظمها تحكي التراث الحائلي، وإظهار الموروث بصورة حضارية جمالية وكذلك مشهد «حاتم الطائي» وحصانه الشهير، وكلماته المعروفة. وقد تناولت الصحف العربية السبت 4 فبراير 2017 خبر رحيل الفنان التشكيلي عن عالمنا؛ الفنان علي بن سالم العلي الضمادي، ابن مدينة حائل السعودية، وصاحب البصمة المميزة في فن النحت، والذي أستمر أكثر من 40 عاماً من العمل والتميز في «الطرق على النحاس»، جعلت من الفنان الضمادي، اسماً راسخاً في مسيرة فن النحت السعودي وفناناً مبدعاً يستحق كل تقدير. علي بن حمود العريفي - حائل

مشاركة :