فلسفة الأعصاب وخفايا المخ في معرض يلف الولايات المتحدة

  • 3/4/2017
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

بعض أجهزة الميكروسكوب اليوم أصبحت دقيقة لدرجة تمكنها من رسم صورة للمسافة الفاصلة بين خلية وأخرى في المخ، وهي المسافة التي يقل حجمها آلاف المرات عن عرض شعرة في الجسم البشري. وتستطيع تلك الميكروسكوبات كشف الجيوب الدقيقة التي تحمل أدق المعلومات والتي تعبر المسافة الفاصلة بين الخلايا لتشكل ما يعرف بالذاكرة. وفي صور ملونة التقطها ميكروسكوب مزود بمغناطيس عملاق، نستطيع مشاهدة نشاط نحو 100 مليار خلية مخية تتحدث إلى بعضها البعض. وقبل ظهور تلك التكنولوجيا بعقود، كان أقصى ما يمكن لرجل منكفئ على ميكروسكوب في إسبانيا في بداية القرن العشرين أن يحاول تخمين طريقة عمل المخ. وفي هذا الوقت كان ويليام جيمس يحاول تطوير علم النفس ليصبح علما مستقلا، وكان السير تشارلز سكوت شيرنغتون يحاول تعريف النظام العصبي التكاملي. كان سالنياغو راموني كاجال فنانا، وطبيبا، ولاعب كمال أجسام، وعالما ولاعب شطرنج وناشرا، وكان أيضا الأب المؤسس لعلم الأعصاب. والشهر الماضي، افتتح متحف وايزمان أرت ميوزيوم بمدينة مينابوليس معرضا متنقلا يعد الأول الذي يخصص فقط لأعمال راموني كاجال. ومن المقرر أن يتوقف المعرض في مدن مينابوليس، وفانكوفر، وكولومبيا البريطانية، ونيويورك، وكامبريدج، وماس، وتشابل هيل، وذلك حتى أبريل (نيسان) 2019. بدأ راموني كاجال بالاهتمام بالفنون البصرية والتصوير، وأيضا اخترع طريقة لعمل الصور الملونة، بيد أن والده أجبره على الالتحاق بكلية الطب. ومن دون خلفيته الفنية، ما كان لإنتاجه أن يكون بهذا التأثير الكبير، بحسب الدكتور سوانسون، مضيفا: «من النادر أن تجد عالما وفي نفس الوقت فنانا مميزا يستطيع إظهار جميع أعماله بعبقرية. يبدو أن هناك اهتماما ظاهرا بالتفاعل بين العلم والفن، وأعتقد أن كاجال سيكون علامة بارزة في هذا المجال». وتوضح الصور في كتاب «العقل الجميل» ما ساعد راموني كاجال في استكشاف العقل والجهاز العصبي، ولماذا كان لأبحاثه هذا التأثير على مجال علم الأعصاب. أراد راموني كاجال أن يعرف شيئا ما لم يفهمه أحد قط: كيف تتحرك النبضات العصبية في المخ؟ وتعين عليه الاعتماد على ملاحظاته الخاصة ليجد إجابة على هذا السؤال. تغيرت حياة راموني كاجال في مدريد عام 1887. عندما عرض له عالم إسباني آخر ما عرف باسم بقعة «غلغي»، وهو تفاعل كيميائي يعمل على صبغ خلايا المخ العشوائية. وكان العالم الإيطالي كاميلو غولغي هو من عمل على تطوير هذه الطريقة ليتمكن من رؤية تفاصيل الخلية العصبية من دون تدخل من الخلايا المجاورة. عمل راموني على تهذيب بقعة «غولغي»، ومن خلال التفاصيل التي اكتشفها في الصور حدثت ثورة في علم الأعصاب. في عام 1906. اقتسم كاجال وغولغي جائزة نوبل، وخلال تلك الفترة كتب كاجال ما عرف باسم «فلسفة الأعصاب»، وهي النظرية التي جعلت خلايا المخ ينظر لها باعتبارها خلايا عصبية منفصلة، مما أدى إلى اكتشافه للطريقة التي تقوم بها تلك الخلايا بإرسال واستقبال المعلومات التي أصبحت شكلت لاحقا القاعدة لدراسة عالم الأعصاب الحديث. وصفت نظرية كاجال تدفق المعلومات في المخ؛ فهي وحدات منفصلة تتحدث إلى بعضها البعض وفي اتجاه محدد، وترسل المعلومات من خلال ملاحق طويلة تعرف باسم «أسونز» أشبه بالفروع مرورا بالمسافات الفاصلة بينها. لم يستطع كاجال رؤية تلك المسافات في الميكروسكوب، لكنه أطلق عليها اسم الوصلات العصبية، وقال: إننا لو فكرنا وتعلمنا وكونا ذكريات في المخ فإن هذه المسافة الصغيرة هي على الأرجح المكان الذي تصنع فيه الذكريات. ويدحض هذا الاعتقاد السائد حينها بأن المعلومات تنتشر في جميع الاتجاهات في الشبكة العصبية. بات قبول النظرية الجديدة ممكنا بعد قيام راموني كاجال بتنقية بقعة «غولغي» وإصراره على تبادل أفكاره مع الآخرين. وفي عام 1889. أخذ راموني كاجال شرائحه وتوجه إلى مؤتمر علمي في ألمانيا، وثبت ميكروسكوب ووضع أمامه الشريحة في وجود كبار علماء ذلك الحين، وقال: «انظروا هنا، انظروا إلى ما أراه»، بحسب جانيت دوبنسكي، أستاذ علم الأعصاب بجامعة مينيسوتا، أضاف رامون «الآن ألا تعتقدون أن ما أقوله عن أن الخلايا العصبية هي خلايا مستقلة رأي صحيح؟». دهش العالم الألماني الكبير ألبرت كولير، وشرع في ترجمة أعمال راموني كاجال من الإسبانية إلى الألمانية، ومن هنا انطلقت فلسفة الخلايا العصبية، لتحل محل النظرية الشبكية السابقة. لكن راموني كاجال مات قبل أن يستطيع أحد إثبات تلك النظرية. ربما كانت أبرز صور راموني كاجال تلك الصورة التي توضح الخلية العصبية الهرمية في القشرة الدماغية، وهي الجانب الخارجي للمخ المسؤول عن إدارة حواسنا وإعطاء الأوامر الحركية ومساعدتنا في تنفيذ وظائف عقلية أرقى كاتخاذ القرارات. بعض تلك الخلايا في غاية الكبر لدرجة أنك لا تحتاج إلى ميكروسكوب لرؤيتها، على عكس أغلب خلايا المخ. درس راموني كاجال خلايا «بوركينجي» العصبية بنهم شديد وأوضح بتفاصيل دقيقة تركيبتها قريبة الشبه ببنية الشجرة مثل تلك الموجودة في المخيخ. ووفق الدكتور دوبنسكي الذي كتب فصلا في كتاب «العقل الجميل»، فالمحاور العصبية مثل تلك الموجودة في الصورة والمشار إليها بحرف «a»، بمقدورها التحرك لمسافات كبيرة في جسم الإنسان، بعضها يبدأ من الحبل الشوكي حتى أصغر أصبع في قدمك. بالإضافة إلى إظهار تدفق المعلومات في المخ، أظهر راموني كاجال أيضا طريقة تحركها في الجسم بالكامل، مما يتيح للإنسان تأدية وظائف مثل السعال والتقيؤ؛ فعندما نتقيأ مثلا تقوم المعدة بإرسال إشارة إلى العصب المبهم في المخ ومنه إلى الحبل الشوكي الذي يقوم بدوره باستثارة الأعصاب لتجعل المعدة تنقبض وتنبسط. وعلى نفس المنوال، فمجرد دغدغة بسيطة في نهاية حلقك تجعلك تسعل؛ فالحنجرة ترسل إشارة للعصب المبهم ثم إلى الدماغ فالحبل الشوكي، حيث تقوم الخلايا العصبية بإعطاء إشارة إلى عضلات الصدر والمعدة لتجعلها تتقلص. اختتم الدكتور دوبنسكي بقوله إن «الناس عادة ما تبدأ المؤتمرات العلمية بعرض صور للرسومات التي صنعها كاجال لأن ما أضاف العلماء لاحقا يتماشى تماما مع طرحه كاجال منذ زمن. فما حققه كاجال لا يزال ساريا حتى اليوم».

مشاركة :