من أسرة بولندية هاجرت إلى فرنسا جراء الحرب العالمية الأولى، اسم عائلته صعب النطق، لم يكن يجيد تحدث الفرنسية ولكن يتأثر بشدة حين يستمع إلى نشيد "لامارسييز"، رحل عن ريال مدريد لأنه لم يتأقلم ومارس كرة القدم حتى سن الـ42. إنه ريمون كوباتسيفسكي. كوبا، لاعب ريال مدريد في حقبة الخمسينات رفقة الجيل التاريخي الذي ضم ألفريدو دي ستيفانو وبوشكاس توفى أمس الجمعة بعد صراع طويل مع السرطان عن عمر يناهز 85 عاما. في حي "نو لو مينيه" بإقليم "با دو كاليه" بدأ شغف الطفل صاحب الثماني سنوات بكرة القدم، وشكل فريقه الخاص لخوض المباريات في الحي الذي طغت عليه الصبغة البولندية، وفالفريق كان مكونت من أبناء الأسر التي هاجرت إلى الأراضي الفرنسية مثل عائلة ريمون. يقول كوبا عن هذا الفترة: "شكلت فريقي الخاص بكرة القدم، وكنا نواجه الأصدقاء الفرنسيين في الحي، لكننا لم نكن نلعب بكرة قدم حقيقية، كانت قطعة سميكة من القماش نقوم بربطها حول أحد علب الطعام ونركلها مثل الكرة". أثناء تلك الفترة لم يكن يفكر الفتى الصغير في أن يصبح لاعبا محترفا، بل كان يود أن يكون مهندسا كهربائيا. لكن هذا لم يمنعه من ركل الكرة في وقت فراغه لتخطي الصعاب اليومية وفعل أي شئ، أي شئ لركلها، حتى لو كان العراك مع مسئولي الأمن في الاستاد الخاص بالحي. العراك لم يكن فقط ما يفعله كوبا، بل السرقة أيضا. أثناء الحرب العالمية الثانية كانت فرنسا تحت الاحتلال الألماني، وفي تلك الفترة كان الجنود يخوضون مباريات بكرة حقيقة من الجلد، لذا وجد كوبا الفرصة لسرقة تلك الكرة واللعب بها بدلا من جنود الاحتلال، ووضع خطة وكأنه نابليون لسرقتها، وبالفعل حصل عليها. يرى كوبا أن فعله هذا كان من أفعال المقاومة، فيقول مازحا: "أثناء رحلتي قمت بالعديد من أفعال المقاومة". كان يرى أن سرقة الكرة في سبيل الوطن. موهبة كوبا قادته إلى فريق الحي وهو لم يبلغ سن العاشرة عام 1941 حيث اكتشفه المدرب جيان باتميل، وضمه للفريق ونجح في تسجيل هدفين في أول مباراة له، لكنه رحل بعد عام وجاء كونستانت تيسون الذي ترك أثرل كبيرل في حياته عندما تولى تدريب الفريق. يتذكر كوبا حديث تيسون له عندما كان في الرابعة عشرة من عمره "ريمون، أنت صاحب جسد صغير، لكنك ستصل لأعلى المراتب في كرة القدم. فقط ابذل المجهود اللازم". لكن قبل ذكر أثر مقولة تيسون على نفس كوبا، نذكر لماذا كرة قدم كانت المتنفس الوحيد له. "في الرابعة فجرا، كان يستيقظ أبي وأخي من أجل الذهاب للعمل في المنجم وكانت أمي تحضر لهم الفطور والقهوة". "فهمت أن أمور المعيشة صعبة، وأن أسرتي بحاجة للمال لعيش حياة كريمة". "في الرابعة عشر بدأت البحث عن عمل، لكن عملا مختلف عن أبي وأخي، الذي كان حارسا للمرمى، حلم حياتي كان أن أصبح مهندسا كهربائيا، لكن بسبب أصولي البولندية لم أحصل على تلك الوظيفة، كانوا يقولون لي لا بمجرد أن اتحدث ويعرفون أنني بولندي". فشل كوبا في إيجاد وظيفة أفضل من والده فرانسيس وأخاه هنري ، فقرر أن يعمل معهما من أجل جلب المال. كان عليه أن يجر عربات الفحم لعمق 600 متر تحت الأرض 8 ساعات يوميا. وبعد عمل استمر لمدة عامين ونصف العام، وحينما كان يقوم بنقل أحد العربات الفارغة في أكتوبر عام 1947، سقطت صخرة على يده اليسرى كلفته بتر الإبهام والسبابة، وعليه ابتعد عن العمل وكان يحصل على 200 فرنك فرنسي شهريا تعويضا لما جرى له. نعود إلى نصيحة تيسون، والتي عمل بها كوبا جيدا حين بلغ الـ18 من عمره. في مدينة ليل، التي تبعد عن با دو كاليه 25 كيلومترا، أُقيمت مسابقة أفضل لاعب في شمال الإقليم، ونجح كوبا في تقديم عروض طيبة قادته للنهائيات التي أقيمت في العاصمة باريس، لكنه حصل على المركز الثاني خلف جيان سوبيه بفارق 0.75 نقطة بعدما فشل في تسجيل ركلة جزاء. خسارة ريمون المسابقة لم تمنعه من فرصة الانضمام لأحد الأندية، وانضم لنادي أنجيه عام 1949، بعقد بصفته شبه هاو، مقابل 100 ألف فرنك فرنسي، وكان الانضمام رفقة صاحب المركز الأول في المسابقة سوبيه. وهناك لقب "ريمون" باسم كوبا لأول مرة، والسبب مدربه كاميل كوتي الذي قال له: "من الآن أنت تدعى كوبا، وليس كوباتسيفسكي. كوبا اسم سهل الحفظ". 14 هدفا في 60 مباراة خلال موسمين، جعلت ستاد ريم يتعاقد معه بعد أن كان ستاد رفض ضم كوبا بعد مسابقة المواهب مباشرة. خمسة مواسم مع ريم سجل فيها 48 هدفا في 158 مباراة وحصل على لقب الدوري مرتين جعلوا كوبا أحد أبرز المواهب الفرنسية، ولم لا بعد أداء أكثر من ممتاز في نهائي الكأس الأوروبية أمام ريال مدريد عام 1955-1956. الخسارة 4-3 أمام الفريق الإسباني لم تمنع كوبا من التألق، لدرجة أن الصحفي الإنجليزي ديسموند هاكيت، الذي كان يعمل آنذاك في جريدة "ديلي اكسبريس" أطلق عليه لقب "نابوليون الصغير" نظرا لجسده الصغير النحيل وقدرته العالية على التخطيط لوصول لمرمى الخصم. بعد المباراة انضم كوبا لصفوف ريال مدريد قبل أن يتم التوقيع مع مثله الأعلى بوشكاش، ليكون دون سانتياجو بيرنابيو فريقا أسطوريا ضم ألفريدو دي ستيفانو وخينتو وخوسيه سانتا ماريا. بدايته مع ريال مدريد موسم 1956-1957، جاءت متأخرة بسبب القواعد التي كانت تنص على وجود ثنائي أجنبي فقط في الفريق، حل المشكلة جاء بحصول دي ستيفانو على الجنسية الإسبانية وبدأ كوبا مسيرته مع الفريق وحصل لقب الدوري الإسباني والكأس اللاتينية، بطولة كانت تشارك فيها البلدان التي لها أصول لاتينية في أوروبا وهي: فرنسا، إسبانيا، البرتغال وإيطاليا، ودوري أبطال أوروبا، ليكون أول لاعب يشارك في نهائي البطولة مع فريقين مختلفين. وفي الموسم الثاني، 1957-1958، جمع ريال مدريد بين لقب الدوري الإسباني ودوري الأبطال وحقق كوبا إنجازه الأعظم.. الكرة الذهبية. وذلك بعد مشاركته في كأس العالم 58 مع فرنسا وتشكيل ثنائي قوي مع جوست فونتين. كوبا الذي كان يرفض مدربو منتخبات الشباب الفرنسية ضمه بسبب أصوله البولندية وعدم السعى في حصوله على الجنسية الفرنسية، التي حصل عليها حينما بلغ الـ21، حقق للديوك أعظم إنجاز لهم في كأس العالم بالحصول على المركز الثالث. قبل 40 عاما من مونديال 98 الذي توجت به فرنسا. فيقول كوبا: "في كل مرة كنت أرتدي فيها قميص المنتخب الفرنسي، واستمع للنشيد الوطني كان يراودني شعور غريب بسبب جذوري البولندية، لكني كنت أبذل كل جهدي من أجل فرنسا، ومن أجلي أنا أيضا، لكي أصل للقمة". بعد كأس العالم، لعب كوبا آخر مواسمه مع ريال مدريد وحصل فيه على لقب دوري أبطال أوروبا، وعاد من حيث أتى، ستاد ريم، بسبب صعوبة تأقلمه على العيش في العاصمة الإسبانية مدريد على الرغم من رغبة الرئيس بيرنابيو في تمديد عقده مع النادي لخمسة مواسم إضافية. ومن عام 1959 وحتى 1967 دافع كوبا عن ألوان ستاد ريم في 287 مباراة سجل خلالها 42 هدفا. بعد ذلك اعتزل كوبا خوض المباريات الرسمية، لكنه استمر في اللعب وديا حتى عامه الـ42. دائما ما نجح كوبا في خططه، في سرقة الكرة من الألمان، في الوصول لمرمى الخصم والتسجيل، وكأنه نابليون فعلا، وليس مجرد خليفة للقائد الفرنسي الذي لطالما نجح في وضع خطط عسكرية عظيمة.
مشاركة :