المخرج مرزاق علواش يفتح ملف شيوخ الفضائيات في تحقيق في الجنة والتطرّف الديني في المجتمع الجزائري. العرب أمير العمري [نُشر في 2017/03/05، العدد: 10562، ص(16)]دهشة مشاهدة الشريط قبل إجراء الحوار عاد المخرج الجزائري الكبير مرزاق علواش بفيلم جديد للعرض في قسم البانوراما بمهرجان برلين السينمائي، كان هذه المرّة فيلما تسجيليا هو الأول من نوعه الذي يخرجه علواش لكي يناقش من خلاله موضوعه الأثير منذ “حومة باب الواد”، أي في البحث في موضوع التطرّف الديني في المجتمع الجزائري وبروز ظاهرة الإسلام السياسي التي صبغت عقدا كاملا بالدماء في ذلك البلد، سالت بفعل العنف والعنف المضاد. وقد يكون العنف قد أصبح أقل حدة في الوقت الخالي إلا أن أسبابه ودوافعه مازالت قائمة هناك. منذ فيلمه “حومة باب الواد” (1994) وعلواش يبحث في ظاهرة الإسلام السياسي والتطرف الذي أدّى إلى الإرهاب، وقد امتد بحثه الشاق عن الأسباب التي أدت إلى ما شهدته الجزائر من تطرف وكراهية وانقسام اجتماعي واقتتال أهلي في أفلامه التالية “العالم الآخر”، “التائب”، “السطوح”، “مدام كوراج”. أما في فيلمه الجديد (التسجيلي) فهو يذهب أبعد ممّا طرحه في أفلامه السابقة، فهو لا يكتفي بتصوير مظاهر الصراع، بل يذهب للبحث في المفاهيم والأسس الفكرية التي يقوم عليها، متوقّفا بشكل خاص، أمام الدعوات التي يطلقها شيوخ السلفية عبر الفضائيات داخل الجزائر وخارجها ويستقبلها الملايين من الشباب الجزائري عبر شبكة الإنترنت، تتعلق تحديدا بفكرة الشهادة والجهاد، وكيف أن الشهيد الذي يفقد حياته خلال جهاده من أجل تحقيق فكرة الدولة الإسلامية ونصرة الإسلام على الكفر وغير ذلك، سيذهب مباشرة إلى الجنة وهناك سيجد 72 حورية من حوريات الجنة -أو الحور العين- يمكنه أن يستمتع معهن بكل ما حرم منه من متع في الحياة الدنيا! الوعد بالجنة يستند الفيلم على بحث مكثّف أجراه علواش، عثر خلاله على عشرات من شرائط الفيديو التي تبث عبر موقع “يوتيوب” على الإنترنت، لشيوخ التطرف الذين يسرفون كثيرا في وعودهم للشباب بدخول الجنة وملاقاة الحور العين، مع الاستمتاع ببحار من العسل والخمر تقدمهما لهم الحوريات، تشجيعا لهم على الالتحاق بما يدعونه الجهاد وما هو في الحقيقة سوى الجماعات الإرهابية المنظمة. يردد هؤلاء الشيوخ أشياء مغوية للشباب مثل كيف أن الحور العين التي يجامعها الرجل وهي عذراء، ترجع إليها عذريتها وتتجدد تلقائيا عند كل مرة يقربها الرجل، كما أن المتزوج منهم ستصحبه زوجته وتعمل على خدمتها 72 حورية من حوريات الجنة أيضا. تبدأ بطلة الفيلم، الصحافية الشابة من شريط عثرت عليه يعد فيه أحد هؤلاء المشايخ شباب الجهاد بالحور العين ويسهب في وصفهن بالقول إنهن يتميّزن ببياض البشرة ونعومتها دون حاجة إلى مساحيق أو “كريمات أو نيفيا” -على حد قوله- ثم تبدأ “نجمة” وهو الاسم الذي يطلقه علواش على الممثلة التي تقوم بدور الصحافية في الفيلم، برفقة زميلها الصحافي مصطفى، بالبحث في موضوع الجنة ومفهومها ومغزاها والصورة التي تروّج لها، فتعرض شريط الفيديو على عشرات الأشخاص، عبر جولة في ربوع الجزائر، تنتقل خلالها من المدينة إلى الريف، ومن رجال ونساء في الشارع، إلى نماذج من النخبة المثقفة، للتعرف على انطباعاتهم عن فكرة الجنة وصورتها في أذهانهم، وكيف ينظرون إليها ويتخيّلونها في “العالم الآخر”، وكيف يرون ما يقوله الشيخ في الشريط المشار إليه عن الحوريات الاثنتين والسبعين وغير ذلك من إغراءات يعرضها بحماسة لافتة على الشباب البسيط، وما تأثير مثل هذه الدعوات.فكرة التعارض مع الإسلام تتكرّر في الفيلم على ألسنة الكثير من المتحدثين بمن في ذلك نساء الطبقة الواعية المثقفة في الجزائر ورجالها، ومعظمهم من الكتاب والنشطاء السياسيين أو المدافعين عن حقوق الإنسان، والمرأة مدخل إلى الموضوع يتميز الفيلم بوحدة الموضوع وتركيزه على فكرته الأساسية، ينطلق منها ولا يحيد عنها أبدا رغم امتداد الفيلم في زمنه وتعدد الأماكن والشخصيات التي تظهر فيه، كما أن لدينا هنا شخصية رئيسية هي شخصية الصحافية الشابة، التي ترحل لاكتشاف المغزى الكامن وراء هذه “اللوثة” الدينية المتصاعدة، وتسجيل رد فعل الفئات الاجتماعية المختلفة بما في ذلك بعض رجال الدين الإسلامي الذين يعتنقون أفكارا متقدمة تناقض الفكر السلفي المتشدد، وإن كانت لا ترفض صورة “يوتوبيا” الجنة استنادا إلى ما ورد بالطبع في القرآن. هذه الصحافية التي تتخذ موقفا محايدا إلى حد كبير في معظم مشاهد الفيلم، هي التي يُطلب من المشاهدين التماثل معها، لكنها فتاة أو امرأة، غير محجبة، تتحرك أحيانا بصحبة زميلها مصطفى، وفي معظم الأحيان من دونه، كما أنها غير متزوجة، وبالتالي يبدو وجودها وسط الناس في شوارع المناطق الريفية غريبا من وجهة نظرهم أو مستهجنا. يبدو الفيلم في بنائه أقرب إلى “فيلم الطريق” أو الرحلة، فبطلته دائمة الانتقال من مكان إلى آخر، كما يبدو في أحيان أخرى كتحقيق تلفزيوني، وإن كان يرتفع بفضل حبكته وصياغته الجيدة من ناحية المونتاج، إلى جدلية الفيلم التسجيلي الحديث. تلاحظ “نجمة” خلال محاولاتها إيقاف النسوة في الشوارع لسؤالهن عن “الجنة” أن الغالبية العظمى من النساء المتقدمات في السن (المحجبات)، ترفضن الحديث معها. ولا يجد موقفها الاجتماعي مناصا من الإعلان عن نفسه عندما يحتدم الجدل أو عندما تصطدم ببعض ما تتلقاه من ردود. “نجمة” تريد أن تلتقي بأحد شيوخ السلفية الوهابية المتشددين، أحد أصحاب تلك الشرائط المنتشرة التي تؤثر في الملايين من الشباب، لكنها لا تنجح أبدا، كما لا تنجح في الدخول إلى معاقل الفكر المتشدد، ولكنها تلتقي رغم ذلك، مع أحد الأعضاء السابقين في تلك الحركة المتشددة، وهو أفضل من يقدم نقدا لأفكار التشدد السلفية بعد أن انشق عن الحراك لإدراكه عن تجربة عميقة، أن المسألة بعيدة كل البعد عن روح الإسلام الصحيح من وجهة نظره. الجنة والفتنة فكرة التعارض مع الإسلام تتكرّر في الفيلم على ألسنة الكثير من المتحدثين بمن في ذلك نساء الطبقة الواعية المثقفة في الجزائر ورجالها، ومعظمهم من الكتاب والفنانين والنشطاء السياسيين أو المدافعين عن حقوق الإنسان، والمرأة بوجه خاص. ربما يكون من الطريف أن نستمع إلى تصوّراتهم المختلفة عن “الجنة”، ولكن من المدهش أن لا أحد -باستثناء شخص واحد فقط- يناقض بوضوح المفهوم السائد الغيبي في النظر إلى موضوع الجنة. هناك الكثيرون الذين يعتبرون الدعاوى السلفية “أجنبية” يقولون إنها جاءت إلى الجزائر من خارجها، ويرونها سبب ما وقع في الجزائر من “فتنة” -باستخدام نفس التعبير الذي يستخدمه السلفيون- أي “الفتنة” ولكن بمعنى مختلف كلية، فالمقصود هنا “عشرية القتل” أي الصراع المسلح الذي استمر طوال سنوات التسعينات من القرن العشرين في الجزائر بين المسلحين الإسلاميين وقوات الأمن. نقد سياسي الموضوع الذي ينطلق من الفكر الديني يصل بالضرورة خلال الفيلم إلى النقد السياسي، فأحد النشطاء يرى أن الفكر الإسلامي المتشدد ما هو سوى أداة لفرض استبداد الدولة، وأنها تشجع أمثال هذه الأفكار التي تغري الشباب بما سيحصدونه في الجنة، بغرض صرف أنظار الشباب عمّا يحققه رجال السلطة من منافع وما يشيدونه من قصور ويكنزونه من ثروات!الصحافية الشابة المشغولة بالبحث الشائك تنجح نجمة في مقابلة شيخ صوفي في بلدة صحراوية، يقول لها إنه يرفض فكرة التلويح بالعذاب في النار، والحور العين في الجنة، مفضلا فكرة أن الإنسان الذي يعمل عملا صالحا طيبا في الدنيا هو من سيذهب للجنة، أما شكل الجنة فهي ستكون مكانا مريحا جميلا ليس فيه شرور. ومن مفهوم العذاب والثواب في النار والجنة، تنتقل نجمة إلى التساؤل عن صورة الجنة كما يتخيلها الجميع. معظم من تلتقيهم من بسطاء الرجال في الشارع خاصة في المناطق الريفية، يعتنقون تماما فكرة الحور العين أي ما يردده شيوخ الفضائيات عن الجنة والشهادة والمسلم الحق. أما المثقفون الذين تلتقيهم ومن بينهم عدد لا بأس به من النساء، فيختلفون على صورة الجنة. الكاتب كمال داود مثلا يرى أن الترويج لفكرة الاثنتين وسبعين حورية، والحديث عن مضاجعة العذارى وتجدد عذريتهن، واحتفاظهن بالبشرة الناعمة، والتبشير بصورة المرأة الفاتنة ذات الشعر الأسود المنسدل، والجسد الناعم.. الخ ما هو سوى نوع مما يطلق عليه “البورنو الإسلامي”، أما هو شخصيا فيرى الجنة مكانا تتحقق فيه الاشتراكية “الطوباوية”، التي تكفل حصول المرء على كل ما يحتاجه. يرى أحد الكتاب في الفيلم أن المشكلة ثقافية بالأساس، لأنها تجسد حالة الفصام الكائن داخل عقول الشباب الجزائري، فهم من ناحية يعتقدون أنهم بحاجة إلى الاستمتاع بالحياة العصرية، يقبلون قيم الحداثة ويتعاملون مع منتجات العصر الحديث، إلا أنهم من ناحية أخرى، يتشبثون بالقيم التقليدية الدينية خاصة عند النظر إلى المرأة. ما تمكن ملاحظته أولا أنه رغم أن الصحافية “نجمة”، التي يتخذها مرزاق علواش أداته في البحث عن معنى “الجنة” في فيلمه، توجه كل أسئلتها إلى من تجري معهم المقابلات، باللغة العربية، إلا أن الغالبية العظمى من المتحدثين في الفيلم من المثقفين والكتاب والفنانين وغيرهم، يتحدثون ويجيبون باللغة الفرنسية، وهو ما يجسد مرة أخرى، مشكلة التناقض الثقافي القائم في الجزائر بعد 55 عاما من الاستقلال عن فرنسا، أي أن المثقف لا يزال عاجزا عن التعبير باللغة العربية التي يعتبرها كثيرون منهم “لغة مساجد” أي مرتبطة بالتراث الإسلامي فقط، ولا تصلح لغة للحديث عن قضايا عصرية، فكرية وفلسفية. وهي محنة حقيقية تعكس عزلة المثقف عن الشعب وعن لغة الشعب وعجزه عن تطويعها لأفكاره “المتقدمة” بعيدا عن الدارجة البدائية التي تتعامل مع مفردات الحياة اليومية البسيطة. أما الملحوظة الثانية فهي أن الفيلم يعاني في بعض أجزائه من تكرار الفكرة دون أن يضيف جديدا، كما يؤدي طغيان العناصر المثقفة وتهميش آراء البسطاء وغياب آراء مشايخ المساجد مثلا، بالتوازن الضروري في الفيلم. ولكن من جهة أخرى يهتم علواش بتصوير الجانب الإنساني في حياة “نجمة”، في علاقتها بأمها، وحياتهما معا، وكيف تحرص أمها على الاتصال بها باستمرار للاطمئنان عليها، وكيف تقضي الفتاة وقتها في العمل أمام جهاز الكمبيوتر، ثم وهي تجري الاتصالات الهاتفية مع الشخصيات التي تحرص على مقابلتها، وأهمها بالطبع شخصية الشيخ الذي يضع بعض الشروط التي تقبلها نجمة وزميلها، لكنه يختفي ويمتنع عن الاستجابة في النهاية. مفارقات مضحكة رغم أي ملاحظات سواء على الطول المفرط للفيلم (135 دقيقة)، وهبوط الإيقاع في بعض أجزائه، إلا أن “تحقيق في الجنة” يعد عملا سينمائيا شديد الجرأة والجمال أيضا في صوره التي جاءت كلها بالأبيض والأسود عوضا عن الألوان، فالعالم قد أصبح اليوم -كما يرى علواش عن حق- يتمحور بين الأبيض والأسود، أي بين وجهين للإنسان. ويميل علواش إلى التخفيف من تجهم الموضوع بأن يصور الكثير من المفارقات المضحكة الساخرة أثناء التحقيق. من المفارقات أن نجمة عندما توجه سؤالا بخصوص ما ينتظر النساء في الجنة، يرتبك الكثيرون ولا يتمكنون من الإجابة عن هذا السؤال، ويلجأ بعض المثقفين ممن يطرح عليهم السؤال إلى الإجابات المضحكة مثل الكاتب كمال داود الذي يقول “ربما ينتظرهن مطابخ أكبر كثيرا، وغسالات أضخم” بينما تقول إحدى السيدات “غالبا سينتهزن فرصة انشغال أزواجهن مع 72 حورية من الحور العين لكي يتخلصن منهن ويحصلن أخيرا على حريتهن!”. يختتم مصطفى الصحافي زميل نجمة الفيلم بتعليقه الساخر عندما يقول “إنه يكون من الأفضل أن يخبر الشباب عما ينتظر الرجل المسلم في الجنة، بأنه ستكون له هناك امرأة واحدة فقط في الثانية والسبعين من عمرها!”. ناقد سينمائي من مصر
مشاركة :