تسلمت بيد التبجيل والتكريم، الكتاب المُهدى إليّ من ذلك الإنسان العظيم، صاحب الهمم العالية والفضل العميم، المُستحق منا أن نناديه بالأوّل بين الأُوَل، وواضع الفلسفة الإيجابية بين الملوك والأمم والدول، المحفوظ بإذن الله ثم بنيّاته الخيّرة من الآفات والشرور والعلل، فارس العرب وأمير الشعر والشعراء وحارث البحر وقاهر اليأس والمستحيل، وزارع التفاؤل والابتسامة والأمل. نعم بين يديّ الآن الكتاب الجديد لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، ألا وهو: تأملات في السعادة والإيجابية، ولقد تشرفت بقراءته مرة تلو مرة لأنه صادر جديد، ويحمل في ثنايا صفحاته ما يشبه اللؤلؤ النضيد، فسموه في هذا الكتاب كسابقاته يدعو إلى التغيير والتجديد، بأسلوب بعيد عن التكلف والتعقيد. لقد اشتمل الكتاب على أربعة وعشرين عنواناً رئيساً بعدد ساعات اليوم والليلة، فكأن سموه يريد أن يقول لشعبه أريدكم أن تكونوا أربعاً وعشرين ساعة إيجابيين. نعم... يتحدث الكتاب كله عن الإيجابية والسعادة ومدى التلازم والتوأمة بينهما، والكتاب كله يدور في فلك: «خير الناس أنفعهم للناس»، والخيرية هذه لا تتحقق بالطبع إلا إذا اقترنت بالإيجابية. ويعجبني في صاحب السمو أنه يستمد طاقته الإيجابية من دينه الإسلامي الحنيف، ويعتز بتراث أمته، فهو وإن كان يدعو إلى التغيير والتجديد، ويعشق ما في الحداثة والعولمة من رؤى وأفكار متسرّعة ومتسارعة، إلا أنه يؤمن بالثوابت ولا يتنصل من أصله العربي والإسلامي والشرقي. ومثل هذا الفكر الراقي والمشرق نجده عند الشاعر نزار قباني الذي اتهم بالإسراف في الخروج على المألوف، ولكنه كم هو عظيم عندما يقول: إذا كانت الحداثة تريد أن تبيع مكتبة جدي وعباءة أبي وغطاء صلاة أمي ومسبحها وثوب زفافها بالمزاد العلني فلا. وإذا كانت تريد أن تقطع شجرة عائلتي وتلغي ذاكرتي وتسرق جواز سفري فلا. وإذا كانت تريد أن تجردني من معطفي وملابسي الداخلية وتتركني عارياً فلا. وإذا كانت تريد أن تحرق كل الكراسات المدرسية التي كنت كتبت عليها في طفولتي قواعد النحو والصرف ومحفوظاتي من الشعر الجاهلي والأموي والعباسي فلا. وإذا كانت تريد أن تأخذ مني لون عيوني وطول قامتي وفصيلة دمي فلا. ولكن إذا كانت الحداثة زهرة جديدة في بستان التراث فأهلاً بها،رأو تريد أن تعلق لوحة جديدة على حائط منزلي فأهلاً بها. وهكذا لو تأملنا في كتاب السعادة والإيجابية بعناوينها الأربعة والعشرين، لوجدنا أن كل فكرة فلسفية لسموه تدعو إلى التجديد والتغيير من غير أن تمس شيئاً من ثوابتنا، بل يقابلها من الآية والحديث أو الشعر العربي أو المثل العربي، ما يعزز ذلك بالإيجاب لا بالسلب. فعلى سبيل المثال عندما يتحدث عن فلسفة إسعاد الناس، يستشهد سموه بالحديث الشريف: «خير الناس أنفعهم للناس»، و«تبسمك في وجه أخيك صدقة». وعندما يتحدث عن التحديات يستقبل من يخالفونه في الرأي بالابتسامة ليريهم بأن البحر عميق فلا ينزل في القاع إلا من عُرف بطول نفسه، وبُعد نظره وثاقب رأيه، فهو يقرأ ما بين السطور كالفلاسفة الكبار من أمثال أرسطو وابن خلدون. لذلك فإنهم عندما يرون مشكلات وأزمات أمامهم فيحبطون فيمسكون عن العمل، أما صاحب السمو فيجد فيها فرصاً ومجالاً كبيراً للإبداع والإنجاز، ورحم الله الفيلسوف الباكستاني محمد إقبال الذي يصور تحدّيه للأهوال فيقول: كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا ندعو جهارا لا إله سوى الذي صنع الوجود وقدّر الأقدارا كنا نرى الأصنام من ذهب فنهــ دمها ونهدم فوقها الكفارا كنا نقدم للسيوف صدورنا لم نخش يوماً غاشماً جبارا أجل والشيخ محمد بن راشد وهو قاهر المستحيل وحامل شعل الطاقة الإيجابية في كل الميادين، لن يستسلم للحظ ساعد أو لم يساعد بل يصنع الحظ، ولن يتراجع أمام التحديات، بل يبدع ويتجاوز ففي كل محنة منحة، واشتدي أزمة تنفرجي، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً. فإذا كنت أنت تنظر إلى الصحراء بأنها أرض قاحلة خالية من الحياة، فإنه ينظر إليها بأنها مصدر الإلهام ومكان التأمل وساحة للفكر، والصحراء ثروة وطنية والدليل على ذلك أن معظم الأبراج والمنشآت اليوم أقيمت في تلك الصحراء الخالية كالمركز التجاري (برج راشد) وبرج خليفة وغيرها من الأبراج. فالإيجابية ليست نظرة بل نظارة، فمن لبس النظارة السوداء رأى كل شيء أسود، ومن لبس نظارة بيضاء رأى الحياة من حوله بيضاء، ولذلك قال الشاعر كُثيّر عزة: لو يسمعون كما سمعت كلامها خرّوا لعـــزّة ركّعاً وسجودا نعم... دبي بل الإمارات كلها كانت صحراء قاحلة، ولكن بفضل الله تعالى ثم إيجابية الشيخين زايد وراشد، رحمهما الله، تحولت الإمارات إلى قبلة ومنطقة جذب للسياحة والاقتصاد، ولو وقف زايد عند من قال له: أرضك مالحة ولا ماء عندك لما وجد اليوم شجرة واحدة في إمارة أبوظبي، ولو وقف راشد عند من قال توسعة الخور مستحيلة لما أصبحت دبي اليوم أكبر ميناء في العالم، فكثير من المستشارين شاورهُم ثم خالفهم كما يقول المثل. ويقول الشيخ محمد بن راشد في كتابه الجديد: اغمض عينيك لترى، وهذه فلسفة لها أصل، فالشاعر يقول: سأطلب بُعدَ الدار عنكم لتقتربوا وتسكب عيناي الدموع لتَجمدا ويقول جورج جرداق في قصيدته العاطفية المشهورة التي غنتها أم كلثوم بألحان عبدالوهاب: قد أطال الوقوف حين دعاني ليلمّ الأشواق عن أجفاني فادن مني وخذ إليك حناني ثم أغمض عينيك حتى تراني فالشيخ محمد بن راشد في كتابه يضع صفة أساسية للقائد الناجح، ألا وهي قدرته على التخيل ورسم صورة إيجابية ومتفائلة للمستقبل، فهو يعيش جوّ النجاح وهو لم يبدأ بعد، وقد ضرب سموه مثالاً لذلك فقال: قرر الشيخ راشد أن يبني أطول برج في الشرق الأوسط في دبي، وفي ذلك الوقت لم يكن بناء البرج شيئاً غريباً أو مفاجئاً لمن يعرف طموح الشيخ راشد العالي، لكن الغريب كان مكان البرج. إذاً مطلوب منا أن نستعمل البصيرة قبل البصر، وأن نتخيل الشيء قبل أن نجده على أرض الواقع، والشيخ محمد عندما يدعو إلى التحلي بالإيجابية يدعونا إلى احترام الإنسان عموماً، فهو يقول: لا يوجد شخص غير مهم، أو وظيفة غير مهمة، بل كل إنسان له قيمة وله إبداع وله مهارة وله دور في الحياة. وهذا له أصل في ديننا الحنيف، فالحديث الشريف يقول: (لا تحقرنّ من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) رواه مسلم. والشاعر يقول: ما حوى العلم جميعاً أحد لا ولو مارسه ألفَ سنه إنما العلم بعيد غورُه فخذوا من كل شيء أحسنه أجل مدار العمل دائماً على نظرتك فإذا نظرت بإيجابية وتفاؤل أبدعت، وقد ضرب صاحب السمو المثل بالمواطنة منار الحمادي التي فقدت بصرها في السابعة من عمرها، لكنها ما فقدت الأمل، بل درست وتفوقت وتخرجت في الجامعة رغم صعوبة المواد القانونية التي معظمها غير مترجمة إلى لغة المكفوفين. استطاعت منار أن تستوعب المواد القانونية وهي عمياء وتعمل محامية وتعمل في المحاكم من غير أن تخسر قضية، لذلك يقول صاحب السمو لكل موظف: عندما تواجهك بعض التحديات في عملك ضع نفسك مكان منار. ثم إن القائد الناجح من ينظر بإيجابية لفريق عمله، فنجاحه من نجاح الفريق، وقد قال سموه: فريق عمل عندنا يستطيع الوصول للمريخ، وفريق آخر لا ينجز معاملات ورقية والسبب القائد وبيئة العمل، فلو القائد أسعد فريقه لأسعدوه. ويوجه سموه رسالة إلى العرب عموماً فيقول: ما دمنا جربنا الكثير من النظريات والأفكار والمناهج فلا ضير في أن نجرب أن نكون إيجابيين لبعض الوقت، فنبدأ بتغيير نظرتنا لثلاثة أشياء: 1. ننظر بإيجابية إلى قدراتنا وإمكاناتنا فنثق بأنفسنا، فآباؤنا وأجدادنا كانوا صناع حضارات، فلماذا الأبناء عجزوا عن تكرار ذلك التفوق الحضاري. 2. ننظر بإيجابية إلى المستقبل، ولا نعيش اليوم مثل الجاهليين والسانح والبارح، بل علينا أن ننظر إلى اليابان والألمان كيف استعادوا الثقة بالنفس. 3. نتوقف عن الانتظار الذي تحول إلى عقدة، فصرنا ننتظر معجزة من السماء تهبط، مع أن هذا مخالف لقوانين الكون التي وضعها رب العالمين، فالله تعالى قال: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}، ولم يقل انتظـــروا حتى نرسل إليكم معجزة. إذاً، إذا كان القائد الإيجابي لا يؤمن بالحظ بل يصنعه، وإذا كان يؤمن بأن في كل أزمة تكمن فرصة، وأن السعادة الداخلية هي التي تولد الابتسامة والتفاؤل، فإن الشيخ محمد بن راشد يرى أن الابتسامة هي تولد السعادة، وأن القائد الحقيقي ينبغي أن يمثل قدوة إيجابية، وإلا فإن لم يؤمن بنفسه أولاً ما آمن الناس به تالياً. وعن تأثير الابتسامة كلغة عالمية يسرد سموه قصة واقعية هي أن سائحاً سويدياً له شركات في لندن كان في دبي وارتكب مخالفة مرورية، فأوقفه شرطي المرور، وأول ما فعله أن ابتسم في وجهه، ثم شرح له مخالفته بهدوء وأعطاه هدية بسيطة وأخبره أن الشرطة حالياً تنفذ حملة توعية حول هذا النوع من المخالفات وتركه، فما كان من الشخص إلا أن نقل جميع شركاته من لندن إلى دبي، لأنه عرف أن خلف هذه الابتسامة شعب متحضر وثقافة مؤسسية راقية. إذاً لا تلم الحظ ولا القانون، ولكن لُم نفسك لأنك لا تتعامل معهما بإيجابية، فتكسل وأنت تعلم أن الجنة حُفّت بالمكاره. ومن طلب العلا من غير كدّ أضاع العمر في طلب وتتواكل وأنت تعلم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة. وتحدث الشيخ محمد بن راشد في كتابه عن هادم المعنويات، وهو المدير الذي يقف ضد التطوير والتغيير، ولا يعطي الفرصة للموظفين رغم أن القانون يدعو إلى التطوير، والشيخ محمد يؤمن بأن الإنسان خلق لينمو ويتطور فلماذا نعاكس قانون الطبيعة، فيا أيها المدير أسعِد موظفيك ليُسعدوا هم بدورهم المجتمع، والقوانين ما وضعت إلا لتسهيل الحياة على الناس، فلنستغل كل الطاقات بإيجابية، ولنشكر فريق العمل جميعاً، فإنه لم يشكر الله من لم يشكر الناس. ثم لفت صاحب السمو أنظارنا إلى أن في العالم العربي 200 مليون شاب عربي هم بين خيارين: أن يفقدوا الأمل ويصبحوا فريسة للتطرف والصراعات الطائفية، وبين أن يكون لهم أمل في المستقبل، فمن يا ترى يحولهم إلى 200 مليون طاقة إيجابية، ومن يا ترى يوقد شمعة بدلاً من أن يلعن الظلام؟ ويختم صاحب السمو كتابه بالقول بأننا ينبغي أن نتفاءل بإيجابية أمتنا لأننا ننتمي إلى دين قائده محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وسلم، دعا إلى التسامح بقوله: (اذهبوا فأنتم الطلقاء). وننتمي إلى تاريخ أنجب مثل المأمون الذي نظر إلى العالم بإيجابية وتسامح، فاستفاد من علوم الآخرين وأنشأ بيت الحكمة وصارت بغداد في عهده منارة للحضارة، وقال سموه إن العظماء عظماء حتى لو لم يكونوا على ديننا، واستشهد بنلسون مانديلا الذي خرج من السجن وحكم بلاده من غير أن ينتقم لنفسه، وهكذا المهاتما غاندي الذي حرر بلاده من الاستعمار من غير عنف، بخلاف هتلر الذي دعا إلى العنف فتسبب في قتل الملايين. وأخيراً ما أجمل رسالة التسامح التي حملها زايد وراشد وخليفة من بعدهما، وإننا دولة الإمارات اليوم لا نفاخر العالم بأبراجنا، بل بتسامح دولتنا، لذا فدولتنا جديرة بأن تسجل الأسبقية في إنشاء وزارة للتسامح ووزارة للسعادة ووزارة للمستقبل، لأنها دولة بني أساسها على مكارم الأخلاق. والإمارات بالمناسبة تبدأ بالأسرة فتهتم بها، ولذلك فإن صاحب السمو ختم كتابه بالأسرة الإيجابية رغم أنها لا علاقة لها بالدروس القيادية كما قال سموه، وعلى رأس الأسرة تأتي الأم التي هي المدرسة الأولى والدرس الأول والحب الأول. وأجمل من ذلك كله أن صاحب السمو يختم حديثه بختام إيماني جميل، ألا وهو اعتداده بأن طاقته الإيجابية يستمدها من المحافظة على الفروض الخمسة في أوقاتها قدر المستطاع، فالصلاة تجدد الطاقــة وتسمــو بالروح وتنير الصدر وتشرح القلب لذلك قال تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة}، كما أن التأمل والمشي لعدة كيلومترات يومياً في الصحراء والرياضة مصدر طاقة إيجابية. وإنني في نهاية القول أشكر سمــوه الذي استطاع كحاكم شاعر أن يحول السياسة إلى سياسة إيجابية، وأن يتبنى مبدأ زايد وراشد اللذين قالا: وحّد تقُد، لا سياسة من قال: فرّق تسُد.
مشاركة :