كما في روايتها الأولى «ريحانة» (روايات الهلال، 2003)، تنشغل ميسون صقر في روايتها الثانية «في فمي لؤلؤة» (الدار المصرية اللبنانية، ضمن القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد 2017)، بأسئلة كثيرة وهاجسين. الهاجس الأول متعلّق بوطنها الأول، بماضيها وطفولتها، يأتي عرضه- في الروايتين- من خلال الهاجس الثاني المتعلّق بمكان إقامتها الدائم، مصر (القاهرة) التي باتت أساساً عضويّاً في تكوين هذه المبدعة، ثقافياً واجتماعياً. تقوم الرواية الجديدة على تقنية «رواية داخل الرواية»، وتضمّ حكايتين- روايتين متداخلتين. الأولى هي حكاية شمسة، ابنة الديبلوماسيّ المتنقّل بين الأردن ومصر ثم الصين. تعيش في القاهرة مع والدتها وجدّتها، وتحاول البحث في ماضيها، من خلال دراستها في الجامعة المصرية، وهو ما يسمح بتقديم «رواية» مصرية، تتصل بجوانب من الحياة السياسية والاجتماعية المصرية. والحكاية الثانية هي التي ترويها «الجدّة»، منطلقة من «العقد الفريد» الذي ترتديه الوالدة، حكاية تصوغها شمسة، وتتضمن مجموعة كبيرة من حكايات «مجتمع» هو سفينة النوخذة أبو حمد، والعاملون معه. «في فمي لؤلؤة»، أو في فمي كلام كثير، لا أستطيع إطلاقه. هذه خلاصة من بين خلاصات كثيرة تريد رواية ميسون صقر أن تقولها. ففي المأثور الشعبيّ الإماراتيّ، كما يَرِد في الرواية، يضع الشخص في فمه لؤلؤة، كي لا يتكلم إلا القليل، والضروريّ فقط. تصف الراوية لحظة اعتراف آمنة، بطلة في الرواية، بحبّها لمرهون «وضعت لؤلؤة صغيرة في فمها، حتّى لا ينزلق الكثير من الكلام، وباحت: يا مرهون ترى أنا أحبك». وفي سعيها نحو معرفة تاريخ «عقد لؤلؤ» ترتديه والدتها، وهو «تاريخ الغبن والقهر»، تبذل شمسة (بطلة الرواية) جهوداً مُضنية في بحثها عن «لؤلؤة مفقودة» من العقد. وما هذه اللؤلؤة المفقودة، سوى ذريعة للدخول في سياقات البحث في هذا الماضي، وذلك التاريخ. تحديات البحث تبدأ الرواية في التشكّل، منذ اللحظة التي فيها تقرّر شمسة، طالبة الماجستير في قسم الأنثروبولوجيا أن تتحدّى أستاذها المشرف عليها، عز الدين عبد الفتاح، كي تكتب رسالتها- البحث في صورة غير أكاديمية. صورة تمزج الأكاديمي بالإبداعي، لتمنح البعد الإنساني في الرسالة، مساحة أوسع من البعد الأكاديميّ «الجافّ»، الأمر الذي استدعى خلافها مع الأستاذ، بل الهروب إلى ما تبتغي تحقيقَه بأسلوبها، ووفق قناعاتها هي، وصولاً إلى سفرها إلى بلدها الإمارات حيث ماضيها وذكرياتها، بغية التواصل مع مصادر بحثها ومراجعه، لتخوض مغامرة البحث التي ستكون هذه الروايةُ محصّلة لها. منذ وصول شمسة إلى الفندق الإماراتي، من دون تحديد اسم الإمارة، تبدأ أولى حلقات الفانتازيا الروائيّة. تلتقي في ردهة الفندق بأحد أبرز «أبطال» روايتها، الغوّاص الأسطوري مرهون. وسيتكشّف عن شخصيّة ذي بِنية أسطوريّة، بين عديد الغوّاصين، في حياة «مجتمع سفينة الصيد»، وفي علاقته الخاصّة مع البحر، واللغة المشتركة بينهما. تظل شمسة تطارد مرهون على الشاطئ المحاذي للفندق، بين الخيال والحلم، مثلما تلتقي بعض شخوص الرواية في صور شتّى، كأسلوب شائق من أساليب السرد والبناء الروائي الغرائبيّ. شمسة هذه، وللاسم دلالاته في الإضاءة على التاريخ، مهجوسة بماضيها على نحو مَرَضيّ، مشوب بالاضطراب. لذا فإنها تتلقى علاجاً، وهي وفق الطبيب تعاني من «رغبة التواصل مع روح الماضي» ومن «اضطرابات دمج الخيال بالواقع، والكذب بالحقائق، وطمس الألم فيهما». وهي من جهة ثانية، تعيش اضطراباً عاطفيّاً، فبعدما تحرّرت من علاقة مع سامح، الذي تحوّل نحو التزمّت، نجدها تقع في حبّ أستاذها الذي لا يقل تطرّفاً، لكنّه نوع من التزمّت الأكاديميّ. ما يجعلها تعاني في علاقتها الملتبسة معه، التباساً على المستويين الدراسيّ والإنسانيّ- العاطفيّ. ولكن في تطرّف سامح (غير المتسامح) إشارة إلى صعود ظاهرة التطرّف في المجتمع المصري، هذا المجتمع، والعالَم الذي تطل عليه الرواية من خلال عدد من الشخصيات، خصوصاً رفيقتها مروة وعائلتها وبيئتها. عَبْر ست مغاصات- ستة فصول وستمائة صفحة، تغوص ميسون صقر في عدد من الأمكنة، وفي أزمنة متداخلة. فتقدّم مجموعة كبيرة من الشخوص وحكاياتهم. هي حكايات ذات بعدين، البعد الأول هو المعيشي اليوميّ البسيط، وهو الهامشيّ الذي لا ينفصل عن البعد الثاني، وهو الوجوديّ الأعمق والأساسيّ. وهذا الترابط بين البعدين، ينطبق على المكان، كما على الشخصيات. فعلينا ونحن نقرأ حيوات الشخصيات ومصائرها، أن لا نغفل التحوّلات الجذرية التي أصابت المكان- البلاد، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالانتقال من مرحلة الغوص من أجل صيد اللؤلؤ (الطبيعيّ) وتجارته، ودخول أشكال من اللؤلؤ المزروع (اليابانيّ)، وصولاً إلى زمن مختلف كليّاً هو «زمن النفط». تنطوي الرواية على ثلاث من صور الغوص، أو أكثر. الصورة الأولى، هي الغوص لصيد المحار- اللؤلؤ، وتبدو منذ عنوان البحث الذي قدّمته شمسة إلى أستاذها «البحر ورحلات الغوص»، لكنّ الرواية التي تذهب عميقاً في هذا البعد من الغوص البحريّ الواقعيّ، وتعود بالكثير من اللؤلؤ الثمين، تذهب في الغوص «الفانتازيّ»، فتتغلغل في أعماق النفس البشرية لاستخراج لآلئها النفيسة. مثلما تغوص أيضاً، وهذا هو البعد الثالث للغوص، في تاريخ منطقة الخليج، وخصوصاً تاريخ الإمارات العربية قبل قيام دولة «الاتحاد»، وما شهدته هذه المنطقة من صراع مع الاستعمار، بسبب غناها باللؤلؤ أولاً، ثم مع بدايات اكتشاف النفط ثانياً. مغامرة هي مغامرة روائية على الصعيدين، البنائيّ والموضوعاتيّ. فمن جهة البناء، نحن حيال بِنية شديدة التشظّي، قائمة على بناء حكاية ثم محوها، وكأنها بِنية بَحريّة تعصف بها الأمواج، فكلّما استقرّت مراكب السرد وحكاياته في محطّة، عصفت بها حركات البحر وتوتّراته، فعادت الرواية لتبدأ من محطّة جديدة، حتّى يكاد القارئ يتشكّك في مصائر الشخصيّات، بل في أسمائها، فضلاً عن حقيقة وجودها أصلاً. وعلى صعيد اللغة، ثمّة مستويات عدّة أيضاً، من اللغة الفصيحة أساساً، إلى اللهجة العاميّة، المصرية بين شمسة ورفيقتها مروة، والخليجية في عالم البحر والصحراء والمدينة، وإلى ذلك، هناك لغة ذات طبيعة روحانية، وصوفية أحياناً، تحضر في مفتتح بعض فصول الرواية حيناً، كما يمكن أن تتلمّسها في غلالة شعرية تهيمن على لغة الرواية عموماً، بما يحيل إلى عوالم ميسون صقر في مجمل نتاجها، فهي سرديّة في الشعر، شاعرة في السرد. تتنقّل الكاتبة بين زمنين، زمن رحلة شمسة الدراسية والإبداعية المضطربة والمتوترة، وهو الزمن الراهن، من دون تحديد سنوات أو حوادث بارزة، وزمن حياة شخوص الرواية، قبل سبعينات القرن العشرين. عودة إلى قرون خالية في مجتمع البحر والغوص، وما تنطوي عليه كل شخصية من نزوعات بشرية، واضطرابات نفسانيّة وروحانيّة تأخذها مآخذ شتّى. وفي تنقّلها هذا، تستخدم أساليب السرد المتعددة والمختلفة، معتمدة الحوارات الثنائية (الخارجية)، والمونولوغات الداخلية، مع استخدام كثيف وموسّع للوثائق والمادة التاريخية، إلى درجة لا نكاد نجزم معها بحقيقيّة الوثائق، أم أنّها مجرد أسلوب سرديّ. لكنّ الحجم الهائل من المعلومات، يحيل على عملية بحث واسعة وعميقة قامت بها الكاتبة لإنجاز عملها هذا، وهو ما يتّضح في «المراجع» المشار إليها في نهاية الرواية. تبني شخصية شمسة، وتكوينها ومساراتها ومآلاتها، بما يلائم بناء شخصية ذات أبعاد فردانية، منقطعة عن جذورها، من دون الانقطاع عن تراثها وتاريخها، شمسة التي تفصح عمّا تريد، بعيداً عمّا يريده الآخرون «إرادتي الآن، أن أهزّ بجذع حياتي عميقاً، حتى يساقط منها رطباً جنيّاً». بينما يجرى استخدام الديالوغ أو الوصف، في ما يتعلّق ببناء شخصيات مثل آمنة ومرهون، على رغم ما تتميز به هذه الشخصيات من محاولات التمرّد و «الانخلاع» عن بيئتها. فانتازيا وواقع بين «مغاصات» اللؤلؤ الحقيقيّ، تعثر شمسة على «مغاصتها» الأهمّ، متمثّلة في مركز الوثائق والبحوث والدراسات. وفي هذا المبنى الذي تستعيد فيه بعض ماضيها وذكرياتها، تقيم الكاتبة حفل «الفانتازيا» الأبرز في الرواية. ففي جولتها، تتوقّف أمام أحد الأبواب، وإحدى الغرف، فتستمع إلى أصوات آتية من الماضي. وقريباً من هذه الفانتازيا، وعلى نحو مختلف، حيث يمتزج الفانتازي بالواقعي والتاريخي، ما سيجرى في معرض للصور، لمصوّر بريطانيّ، هو شخصية روائية بين المتخيّل والواقعي، كان على سطح سفينة أبو حمد، هو وليم جورج، أو لعلّه مبارك بن لندن، فهي «تغمغم» في هذا الجانب، حيث تشاهِد شمسة صورة العقد الذي تمتلكه والدتها، وتتصرف على نحو شديد الغرابة، وبما يشبه حالة «غيبوبة»، في حضور وسائل الإعلام، فتُحدث بلبلة إعلامية، تصل إلى شاشات التلفزة، ما يتسبب في تفكيرها في إنهاء رحلتها. وعلى رغم هذا الكمّ الهائل من التاريخ، من الرسائل والوثائق، فالكاتبة (شمسة- ميسون) تترك هذا كله جانباً، لتكتب ما يعبر عن اليوميّات والذاكرة. المادة التاريخية بالنسبة إليها «معاشة من التجربة الإنسانية، لا كمادة ارشيفية»، وثمّة تواريخ وحيوات عدّة متداخلة، تريد من خلالها التعبير عن ذاتها وحريتها. وما اختيارها لشخصية آمنة، سوى تجسيد لخيار البحث عن وسيلة لتحقيق الذات. ولهذا فهي ترسلها في رحلة- مغامرة إلى الهند، إذ تهرب من زوجها الغوّاص يوسف، بسبب عنفه معها أولاً، ولشخصيّته الانتهازية، وخياناته حتى للنوخذة الذي ربّاه. هروب تهرب آمنة مع سفينة عسكرية بريطانية تقودها كاترين، المتخفية في صورة قبطان رجل، وهي تحمل «اللؤلؤة المفقودة» التي كان مرهون عثر عليها، وسلّمها للنوخذة، ثمّ سرقها زوجها يوسف وأهداها لها. وفي رحلة هروبها تتخفّى، وتنقطع عن بلدها وعالمها، وتتحوّل إلى «تاجرة» ثرية، وتلتقي بمرهون في الهند، وتعلن له حبّها، قبل أن تنتهي مقتولة بخنجر زوجها (يوسف) الذي استطاع التوصّل إليها في كيريلا الهندية. وتخوض آمنة مغامرة الهروب هذه، كما تقول، ربما لكي «تمحو ذاتها، وتصبح ضمن هذا العالم الواسع، ربما تنجز ما كانت تحلم به في عرض البحر». وهي الرغبة نفسها لشمسة في محو ذاتها الراهنة، بحثاً عن ذات مستعادة من طفولتها. وكما تأخذنا الرواية إلى المجتمع الهندي، عبر الإمساك بخيوط الحياة في هذا المجتمع المختلط، تأخذنا مع الرحالة البريطاني وليم جورج وعشيقته فكتوريا، إلى كينيا وأفريقيا، لنعيش الصراع بين الاستعمار العنصري وأهل البلاد، حيث الغيتو الخاص، وأعمال النهب وتجارة العبيد والأسلحة والعاج، والبدائية والعنف، ضمن ملفّ يتضمّن معرفة واسعة ومعمّقة بهذا العالَم الغريب. تحضر في الرواية عوالم من الحياة والمجتمع الإماراتي عبر رحلة في كثبان الرمال، مع شعراء النبطية. وتتخيل الشاعر خلفان الذي ترك الصحراء ليختفي في البحر، فتقدّم مَسردًا تفصيليّاً عن سلالات النوق وأنواعها. وتنتهي مع مرهون، الاسم الذي يحيل على شخص «رهن الذاكرة». مرهون الذي حاول التخفّي وراء اسم بلال، وعاد من الهند ليبدأ حياة جديدة، حالماً أن يكون «نوخذة»، فيتدرّب على المهنة مع سفينته العُمانية «الغراب»، ليكون «أمير البحر، صديق ابن ماجد»، ولكن «متأخّراً»، ومع ظهور «ماكيموتو» (اللؤلؤ المزروع)، ومع تحولات كثيرة في البلاد، حيث الفقر يدفع الإماراتيين للهجرة إلى الكويت والبحرين للعمل في النفط. وهنا تنقض شمسة الروايات كلها، وتعود إلى القاهرة هي وصديقتها المصرية رفيقة السفر مروة.
مشاركة :