< منذ أمد ليس بالقصير والتلفزيون السعودي بقنواته «التسع» يكابد مع نفسه معاناة مريرة، على رغم الذاكرة «الارتباطية» التاريخية التي بتنا نترحم عليها في «غصب واحد» و«غصب اثنين»، فهل لأن «الغصبين» كانا يمثلان أزهى عصور التلفزيون السعودي في برامجه ومسلسلاته، وحتى أخباره؟ وهل لأنه كان يواكب الأحداث أولاً بأول، على رغم ضيق الدائرة الإعلامية وشراسة عين الرقيب، لظروف طبيعة المرحلة آنذاك؟ في رأيكم أين تكمن مشكلة التلفزيون السعودي اليوم، على رغم توافر كل التقنيات الإعلامية الحديثة وتنوع مصادر الأخبار والتوسع في تمريرها؟ في رأيكم أين يختبئ هذا «الفايروس» الذي ألحق العطب ببعض أجزائه؟ هل هو في عصبه المحرك لكل العمليات الإعلامية الإبداعية، حتى باتت كل العمليات الإنقاذية له شبه مستحيلة، حتى مع تبدل الأحوال وتغير المسؤولين،، وإنشاء هيئة الإذاعة والتلفزيون، وانتقالها من الدوائر الرسمية المغلقة إلى فضاء إداري أوسع، يفترض به أن يكون أكثر انفتاحاً وتحرراً بكل الصلاحيات المخولة بها؟ لقد استبشرنا خيراً بهذه الهيئة، توقعنا أن تؤدي أعمالها المنوطة بها برشاقة أكثر، وتنزع عن كاهلها ثقل الإدارة البيروقراطية المتكلسة القديمة، توقعنا أنها ستوجد صيغة شراكة مع القطاع الخاص تعيد برمجتها وفق الرؤية الحديثة للإعلام الجديد، الذي لا يعرف التقاعس أو حتى الانتظار، وتقدمه لنا بكل التقنيات الحديثة، توقعنا أنها ستحذو حذو قنوات أُخر بصناعة الكوادر من خلال معاهد متخصصة تقوم بتعليم وتدريب المهنيين الإعلاميين من شبابنا، الذين أرى كثيراً منهم يتخبطون في برامج مفتعلة، ويقرؤون بأخطاء فادحة، توقعنا أنها ستتخلص من ربقة الروتين وأن تخرج من تلافيف الأحياء القديمة صعبة الوصول إلى جهات أكثر سهولة ويسراً، إلا أن كل هذه التوقعات، وبعد أربع سنوات من تأسيسها، ماتزال عالقة في فضاء الطموحات والآمال لا فضاء الإعلام الحقيقي. لنعلنها صراحة، غاب تلفزيوننا العزيز عن المشهد الحقيقي للأحداث، لم تكن مواكبته تقترب إلى تطلعات الإنسان، نعم هناك محاولات لا تلبث أن تنهي بفشل ذريع، لسبب واحد بسيط هو فشل الرسالة الإعلامية المتلفزة في إقناعنا، لا من حيث الشكل ولا المضمون؛ فمن حيث الشكل يكفينا مقارنة قنوات التلفزيون السعودي ذات الموازنات الكبيرة بالقنوات الأخرى على ضآلة موازناتها ومحدودية العاملين فيها، أما المضمون فحدث ولا حرج، فعدا الأخبار التي تبثها الوكالات العالمية ويستطيع أي إنسان الحصول عليها من خلال «محموله» بلمسة واحدة، فلا نجد تغطيات خاصة يمكن أن يتباها بها أو تحسب لتميزه، حتى قضايانا وإنجازاتنا الكبيرة تسابقه عليها القنوات الأخرى، حتى رؤية التحول وما تلاها من قرارات، لا نجدها تقتطع منها نصيبها الحقيقي، إذ قُدمت من خلال قنوات أخرى ولا تزال تفاعلاتها تجوب القنوات الفضائية العربية الأخرى، مع أنها كانت أولى من غيرها بها، وكأنها غائبة تقريباً عما آل إليه واقع المملكة، بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، لتصبح محط أنظار العالم مع كل المتغيرات العسكرية والاقتصادية والسياسية وارتباطاتها العالمية، حتى فعاليات الترفيه، التي وصلت خلال فترة وجيزة إلى ما يقرب من الـ200 فعالية، عجزت الهيئة عن استثمارها إعلامياً وإعلانياً وحتى إخبارياً، فنجد التلفزيونات الأخرى تتناقلها، هل يئسنا من قنواتنا إلى هذا الحد؛ حتى طلقناها طلاقاً بائناً، فلم تعد مصدر الحدث الأهم بالنسبة إلينا، بما في ذلك القناة الرياضية التي باتت في ذيل قافية القنوات الرياضية الخليجية تتسولهم بعض «اللقطات» كي تغطي بها أخبارها وتحليلاتها البائسة، حتى أصبحنا لا نراها إلا بعين الشفقة مسترخية على هامش المد الإعلامي الفضائي؟! قنوات لا توفر لضيوفها حتى جرعة الماء وتجلس على طاولات حوار وكراسي مهزوزة كادت أن تهشم عظام الدكتور محمد الربيع ليلة سقوطه على الهواء، ما الفرق بينها، والقنوات الأخرى التي تقدم ضيافة «خمس نجوم»؟ أين القناة الإخبارية التي استبشرنا بها وخلناها ستنافس العربية أو سكاي نيوز؟ ألا يعلم القائمون على هذه القنوات أن الضغط على الرأي العام لا يأتي فقط من رسائل الإعلام المصممة لتغيير اتجاهات الناس، بل يأتي أيضاً من تجاهلهم والتركيز فقط على الهامشي من حياتهم، لذلك فإن غياب المعلومة المستندة إلى وقائع ذات ارتباط اجتماعي وسياسي واقتصادي سيؤدي إلى رأي عام مضاد مشوب بالكراهية، ولربما الشكوك، لذلك فإن تمرير الإعلام النقي، وأعني بالنقي ذلك الذي يستند إلى مقومات أخلاق المجتمع العامة التي ترضي ذائقة الجميع، وإلى قواعد المهنية الإعلامية الصحيحة من دون تنازل عن حيادية الإرسال والتلقي، سيصنع بدوره رأياً عاماً واعياً ومحايداً، حتى الآن نريد أن نفهم سر فشل كثير من برامج التلفزيون السعودي، على رغم المصروفات العالية التي تتكبدها؟ في المقابل تنجح قناة خاصة تبث من شقة في أحد أحياء الرياض، وتحظى بنسبة مشاهدة تفوق نسبة مشاهدة القنوات السعودية برمتها، علينا أن نجيب عن كل هذه الأسئلة بصدقية ووضوح إن كنا عاقدي العزم على استرجاع هويتنا الإعلامية الحقيقية ومعها المشاهد، الذي انزاح إلى فضاءات إعلامية أكثر احترافية. نحن متفائلون بلجنة تسيير أعمال هيئة الإذاعة والتلفزيون، بإشراف الوزير الذي أدرك مدى تعثر عمل الهيئة في السنوات السابقة، ومتفائلون جداً بمن سيأتي رئيساً لها، لعل في هذه الإشارات الواردة أعلاه ما يعين على ترميم ما لحق بقنواتنا من عطب. * كاتب وروائي سعودي. almoziani@
مشاركة :