لا بد أن كثيرا منا يلاحظ بعض الحركات الروتينية المعتادة من بعض فئات المجتمع، خاصة من أصحاب الطبقة المخملية، حيث يفتح السائق الباب الخلفي للمرأة صعودا إلى السيارة ونزولا منها. وتقوم السيدة بمناولته الحقيبة أو الأغراض التي تحملها، ليضعها في مكانها المناسب في السيارة، وغير ذلك من حركات، يحتار المرء في تصنيف بعضها، هل هو ضمن الإتيكيت أم ضمن استعراض أمام الناس من حولهم، لإظهار انتمائهم الطبقي، وإشباع بعض النوازع الدفينة لدى أولئك الأفراد. فنوع السيارة ومكان الوقوف وسلوك السائق أو الوصيفة إن وجدت، لكل ذلك دور في رسم الخارطة الاستعراضية. وفي المحافل المكتظة بالناس يزداد تواتر هذا السلوك الاستعراضي، وتتعدد أشكاله التي تتناقلها عناصر الفئة المترفة، أو تلك التي تود أن تنتمي- ولو من الناحية الشكلية- إلى الطبقات العليا. فعندما تنظر إلى طاولة طعام في أحد المطاعم أو المقاهي المتوسطة أو الراقية، فإنك ستجد منهم من يمد بين فينة وأخرى نقودا لأحد العاملين، دون حاجة إلى ذلك، إذ ليس ذلك في وقت الحساب، ولم يطلب من أي منهم خدمة إضافية حتى يتصور أنه بحاجة إلى أن يعوضه بتلك الهبة، أو يظهر امتنانه له بذلك. ففي مثل هذه الأحوال لا يوجد تفسير لتلك التصرفات، إلا أنها نوع من إظهار القدرة المالية، من أجل أن ينظر إليهم الناس من حولهم بأنهم ذوو شأن، ويستحقون التقدير والمراقبة من بعيد، مثلما يفعل أغلب الفضوليين مع المشاهير. قامت واحدة من الجالسات على طاولة في المطعم، الذي قصدناه لننعم بعشاء في فضاء مفتوح، بإعطاء مبلغ لأحد العاملين، وكان ذلك العامل أيضا مستغربا من قصد تلك السيدة من إعطائه المال المباشر أثناء تناول الوجبات، ودون أمر مباشر أو توضيح لسبب دفع ذلك المال. وعندما لاحظت استغرابنا، ونحن غير بعيدين عنها، أخذت تلتفت علينا بين وقت وآخر، وكأنها تتحدى ما تظن بأننا تهامسنا لقوله، أو لتظهر بأنها لا تهتم لما سنقوله عنها. والطريف أن إحدى من نعرفها ذكرت لنا لاحقا معرفتها الوثيقة بهذه السيدة، وأنها حتى لا تعطي خدمها حقوقهم، فضلا عن أن ينالوا إكراميات منها. فكيف يمكن أن يكون تأويل هذه الهبات العلنية والأكبر من المتوقع في حال جرى قبوله، إلا أن تكون موجهة للآخرين في المكان العام، وليس المقصود بها العاملين في المطعم، فهم لم يكونوا إلا أداة لإظهار البذخ، وإعلان أنه في مكان ما من هذا المطعم يوجد أحد ينتمي إلى علية القوم، حتى لو لم يكن فعليا كذلك. حينها تذكرت أحدا أعرفه، وقد كان يكثر من إعطاء العمال في الجامعة شيئا من المال أمام الناس، وبصورة متكررة، دون أن يقوموا له بخدمة محددة. وكنت قد ظننت بأن طبعه كذلك في التبذير، وعدم حسن التعامل مع المال بصرفه في أوجهه المفروضة. لكني عرفت بالصدفة من أحد المعارف المشتركين بيني وبينه، أنه لم يمنح سائقه رواتبه منذ ستة أشهر، وأن ذلك السائق من فرط غضبه وقلقه النفسي من عدم استلام حقوقه، أصبح يقود السيارة بطريقة متشنجة. فأصبح صاحبنا يتعامل معه على أنه غير كفء للعمل، وأنه يستحق الترحيل على حسابه، دون أن يحمل نفسه أي مسؤولية في إيصاله إلى هذا المستوى من السلوك، بسبب الغربة والإحساس بالظلم، وشعوره كذلك بالإخفاق في إيصال المال اللازم إلى عائلته. وهو السبب الذي من أجله اغترب وأتي ليعمل لدينا. فهذه النماذج التي تبالغ في الكرم أحيانا إلى درجة الإسراف والبذخ، ولكنها من جهة أخرى تهضم الحقوق، ولا تعطي ما هو مفروض أن تعطيه في الحد الأدنى، هي نماذج تمثل ظاهرة ادعاء الفضائل والتظاهر بسيماء الخير ومظاهر الصلاح، التي أصبح يتظاهر بها كثير من الناس مع استشراء دواعي الاستعراض الشكلي، سواء كان من خلال إبداء العفة وسلامة الضمير والتدين الظاهري، أو من خلال انتهاج طريق إسباغ ثياب الشيمة والسمت الطيب. كل ذلك من أجل أن يصنفهم الناس في الخانة، التي يرغبون أن ينتموا إليها، أو في إطار ما أصبح يُطلق عليه سخرية في بعض وسائل الإعلام: «أحب الصالحين ولست منهم». فهل ستخلصنا الحقبة الجديدة من هذه المظاهر، أو من بعضها على الأقل، أم إنها قد أصبحت ثقافة يصعب على المنخرطين فيها الخلاص منها بسهولة، والعودة إلى بساطة السلوك؟
مشاركة :