المفكر وعالم الاجتماع البولندي زيجمرنت باومان في كتابه "الأخلاق في عصر الحداثة السائلة" أن الوضع الإنساني الطارئ في الوقت الحاضر يؤذن بدرجة غير مسبوقة من التحرر من القيود، من ضرورة تُجرب على أنها إجبار، ولذا تصير مكروهة ويجري التمرد عليها. وقال "هذا النوع من التحرر أقرب إلى أن يكون توفيقا بين "مبدأ اللذة" و"مبدأ الواقع" لدى سيجموند فرويد، وأن يكون لذلك نهاية صراع امتد لعصر كامل جعل الحضارة، حسب فرويد، مرتعا للأشياء. وأضاف "غير أن ذلك لا يعني أن الوضع الإنساني المتغير قد أفرغ من الصعوبات التي أفسدت صيغته السابقة، إنه يعني فقط أن الصعوبات تغيرت، وأنها تجرّب بطريقة مختلفة، وأنها تنجو من الأطر الإدراكية التي أوجدت لتخدم الصعوبات السابقة وأنها تحتاج أن يعبّر عنها من جديد. وينبغي للتعبير الجديد أن يكون أولا تأملا في الطرق التي يمكن بواسطتها تحسين الوضع الإنساني الحالي ويجعله أكثر جاذبية ورحابة لحياة أطيب، وأن يكون ثانيا المحدد لمجموع الخيارات التي على رجال ونساء العصر أن يواجهوها إن كانوا يأملون في إنجاز حالة كهذه في حياة كهذه. هاتان المهمتان المترابطتان بقوة كانتا في الماضي مهمة المثقفين ومهنتهم.. لذا فالسؤال الكبير هو ما إذا كان من المحتمل أن أهل المعرفة في عصرنا سيضطلعون بالمهمة مرة أخرى". وأكد في كتابه الذي صدرت ترجمته العربية عن مشروع كلمة أن التوقعات المستقبلية المباشرة أو التي يمكن التنبؤ بها حول هذا الأمر ليست مشجعة. وأوضح أن الاتفاق التاريخي بين المثقفين والناس يبدو اليوم شبيها بالمرحلة الأولى من مراحل الحداثة، مرحلة السعي المكثف لبناء الوطن وسلطة الدولة الحديثة. شهدت تلك المرحلة أيضا التسبيح الحدودي لطبقة أهل المعرفة والطبقة العاملة في الفضاء نفسه، تحيط بهم السيادة الحدودية للدولة ـ الوطن الصاعد حديثا ـ فترة ظلت بها الطبقتان، عمليا وعلى كل المستويات، "فئة مرتبطة بالأرض". لكن تلك الظروف لم تعد ملزمة. "طبقات أهل المعرفة" ـ ومنهم المثقفون ـ يقيمون على نحو متزايد في الفضاء الافتراضي المتجاوز للحدود، يحررون أنفسهم بشكل متنام من الاعتماد على ما هو محلي ومن ذلك السكان. هذه المرة على مستوى الكرة الكرة الأرضية مبكرا جدا ومن الممكن والضروري لأي اتحاد جديد أن يرتب على أساس عالمي". طرح كتاب باومان الذي ترجمه سعد البازعي وبثينة الإبراهيم على مدى ستة فصول تساؤلات كثيرة حول ما يفيض به المشهد العالمي من تطورات وتغيرات، عن العولمة ومشكلات الكوكبية، عن الارهاب واللاجئين والمجتمع الاستهلاكي والاقتصاد الاستهلاكي والسعادة وغيرها، ساعيا إلى تحليل انعكاسات هذه الظواهر الكبرى التي تسم العالم المعاصر. ولافتا إلى أنه رغم المحاولة المستميتة للإمساك بالشئون الكوكبية في الوقت الحاضر فإن "إن عادتنا القديمة والمصرة على البقاء في تنظيم توازن القوى بالاستعانة بأدوات مفاهيمية مثل المركز والأطراف، والسلم الهرمي، والأولوية والثانوية، هي أقرب إلى أن تكون معيقة من أن تكون معينة لنا، أن تكون معمية من أن تكون ضوءاً يقودنا". وسأل باومان: هل الولايات المتحدة فعلا إمبراطورية العالم "بالمعنى الذي منحته أوروبا لمفهوم الإمبراطورية من خلال ممارستها هي في الماضي والذي ورثته أوروبا لسكان الكوكب من خلال ذاكرتها الجمعية". وقال إن هناك أسبابا عديدة تدعو للشك في أنها كذلك، وتبدو الأسباب حاليا وهي تتضاعف بدرجة عالية". وأكد أن التحدي الحقيقي أمام أوروبا ينبع من الأدلة السريعة التراكم على فشل القوة العظمى الوحيدة على الكوكب بشكل بغيض في قيادة الكوكب نحو التعايش وبعيدا عن الكارثة الوشيكة، وأن هناك أسبابا كثيرة تدعو للافتراض أن هذه القوة قد تصبح مسببا رئيسا في عدم إمكانية أوروبا تفادي الكارثة. ورأى باومان أن كون القوى العسكرية أقوى ممتلكات أميركا فهي تميل طبيعيا إلى إعادة تحديد المشاكل الكوكبية سواء أكانت ذات طبيعة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية ـ كمشاكل ذات تهديد عسكري ومجابهة عسكرية وكمشاكل قابلة للحل العسكري فقط، ولا تدعو لحلول أخرى سوى العسكرية، إنها تتعامل مع السياسة على أنها إدامة للحرب بوسائل أخرى. والنتيجة وفقا لذلك "يقع الفقر واللامساواة والبؤس والمشاكل الاجتماعية العاجلة الأخرى التي تتوق إلى الانتباه والإصلاح العالمي، ضحية للحملات العسكرية غير المتوقعة، وحيث إن التدخلات المسلحة المتوالية تفاقم البؤس لعدد متزايد من سكان العالم الفقراء، وحيث إنها تزيد من استياء الناس السابق العميق والحاد من القسوة والتعجرف اللذين يقابل بهما أقوياء الكوكب ومتعجرفوه حاجاتهم وطموحاتهم، تتضاعف عندها النزاعات والخصومات وتصبح فرص التعايش السلمي شحيحة، ويصبح التصور الأحادي الجانب للعالم على أنه موقع المواجهات المسلحة بين المصالح المتضاربة رؤية ذاتية الاكتمال". واضاف إن معنى مقولة "إن كنت تريد السلام فتأهب للحرب" هو سلوك معد نزاع نحو العولمة بالتحديد، فهو يستحدث متابعة التسلح العالمي ويهدد بتحويل كل حاجة غير مشبعة إلى تبرير وكل حالة معاناة إلى ذريعة للحرب. تحتاج أميركا لحماية نفوذها بالاتكاء والاعتماد على ميزتها الوحيدة المسلم بها ـ أي التفوق العسكري ـ أن تعيد تشكيل بقية العالم وفقا لتصورها الخاص، أي بجعل الكوكب مكانا تعالج فيه المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية (ويؤمل حلها) بوسائل وإجراءات عسكرية، في حين أنها تحط من شأن كل الوسائل وأنماط الاجراءات الأخرى وتعطلها ومن هنا ينشأ التحدي الحقيقي لأوروبا". وأشار باومان إلى أن عملية العولمة أنتجت حتى الآن شبكة من الاعتماد المشترك التي اخترقت كل بقعة من الكرة الأرضية ولكن لا شيء غير ذلك. وقال من السابق لأوانه بكثير الحديث حتى عن مجتمع عالمي أو ثقافة عالمية، ناهيك عن نظام سياسي عالمي أو قانون عالمي، هل يوجد نظام اجتماعي عالمي يتبلور على الطرف الآخر من عملية العولمة؟ إن كان نظام كهذا موجودا فإنه حتى الآن لا يشبه الأنظمة الاجتماعية التي تعلمناها أن نعدها طبيعية. اعتدنا أن نتصور الأنظمة الاجتماعية على أنها كليات تنسيق أو توائم أو تكيف كل وجوه الوجود الإنساني ـ وبشكل خاص الآليات الاقتصادية والقوة السياسية والأنماط الثقافية. مع ذلك فإن ما يجري تنسيقه على المستوى نفسه وضمن المجموع الكلي نفسه قد عزل ووضع على مستويات متفاوتة كليا. المدى الذي يصله على مستوى الكوكب رأس المال، التمويل، والتجارة ـ القوى التي تقرر حدود الخيارات والتأثير المتاح للفعل الإنساني، الكيفية التي يعيش بها البشر وحدود أحلامهم وآمالهم ـ لم يسايرها بقدر مشابه ما طور الإنسان من إمكانات للسيطرة على تلك القوى التي تهيمن على حياة البشر. ورأى باومان أن الأبعاد الكوكبية لم تجارها على مستوى عولمي مشابه سيطرة ديمقراطية.. حيث إن القوة تدفقت من المؤسسات التي تطورت تاريخيا والتي اعتادت أن تمارس السيطرة الديمقراطية على الاستعمالات وإساءات الاستعمال للقوة في الدول الحديثة.. العولمة في شكلها الحالي تعني التقدم في تجريد الدول من القوة وحتى الآن غياب أي بديل مؤثر. وأوضح "المحاكمة العادلة، الحكم العادل، يعني حكم القانون، حكم يساوي بين الجميع، قانون لا حزبي وغير فاسد يميل الناس أن يعيشوا في سلام ويبتعدوا عن اللجوء إلى العنف حين يستطيعون توجيه شكاواهم وضغائنهم إلى قوة يثقون بصلاحها وعدالتها. لكن في كوكبنا السريع والفوضوي المتعولم، ليس تلك القوة واضحة إلا من خلال غيابها. تلك قوة حاضرة داخل حدود الدول ذات السيادة، ولكن معظم التلف الموجع، سواء كان موجها لهدف أو عرضيا يرسل اليوم من الفضاء الخارجي الواقع خارج كل الحدود، من تلك الأرض التي لا يملكها أحد، على طريقة الغرب المتوحش، حيث لا حق بلا قوة، حيث القوي هو الحكم، وحيث لا يعاقب سوى الضعيف لما فعل، في عالمنا المعولم، لم تعد القوة تقيم مع السياسات. القوة القسرية ـ الاقتصادية والعسكرية ـ كسرت قيودها السياسية وتهيم السياسية وتهيم حرة في الفضاء الكوكبي، بينما السياسات التي يمكنها السيطرة على حركتها والتي حاولت أن تسيطر عليها ببعض النجاح داخل حدود الدولة القومية تبقى محلية كما كانت قبل ذلك". وأكد باومان أنه في عالم كهذا لا أحد في أي مكان يشعر بالسلامة أو الأمان حيث تسيطر السلاسل التقسيمية على المصير البشري، إنها عالمية الآن، ملتفة على الكرة الأرضية وتجعل الأدوات القاطعة التي طورت على مدى قرون عاجزة بشكل مؤلم عن القيام بمهمتها. إن التنافس غير المقيد في العنف "العنف المتزايد التكاليف والسوء" يتعذى على الاضطراب العالمي الذي ينتفع منه التنافس غير المقيد في الأرباح "الأرباح المتزايدة التكاليف والسوء" مضيفا المزيد من الفوضى لكوكب مضطرب. المتنافسان اللذان يقال إنهما في حرب انهاك، هما حليفان قريبان بعضهما من بعض، لكل منهما مصلحة في تعزيز الاضطراب الكوكبي، الذي لا يمكنهما البقاء طويلا، وكلاهما مستاء من احتمال السيطرة السياسية وحكم القانون، اللذان بمجيئهما لن يتمكنا من الاستمرار". وقال "بين الغرباء المستاء منهم، يحتل الصدارة اليوم اللاجئون، وطالبو اللجوء، وأولئك الذين ليسوا سوى منفيين من الأجزاء الفقيرة في الأرض، إنهم، كما عبر بيرتولد ذات يوم، "نذر الأخبار السيئة" يذكروننا نحن الذين يطرقون أبوابنا كم هو أماننا غير آمن، كم هي راحتنا هزيلة وهشة، كم هي ضعيفة حماية سلامنا وهدوئنا. الحروب والمذابح القبلية، انتشار جيوش العصابات المشغولة بقتل بعضها بعضا بينما هي تمتص وتحرق الزيادة السكانية، هؤلاء هم بعض أكثر النتائج المذهلة والمرعبة لـ "العولمة السلبية" التي تهدد ظروف الحياة للجميع، ولكنها تترك أثرا مباشرا على من يسمون القادمين المتأخرين إلى الحداثة، مئات الآلاف يطردون من بيوتهم، أو يقتلون أو يرغمون على الحرب بحياتهم وراء حدود بلادهم. يبدو أن الصناعة المنتعشة الوحيدة في أراضي القادمين حديثا إلى الحداثة (التي تسمي خداعا وبالتواء "البلاد النامية") هي إنتاج الحشود من اللاجئين". ووصف باومان اللاجئين بالتالف البشري في تخوم الأرض، الغرباء وقد تجسدوا، الغرباء حتى العظم، الغرباء المرفوضون والمقابلون في كل مكان بالكراهية والحقد "إنهم خارج المكان حيثما ذهبوا ما عدا الأماكن التي هي نفسها خارج المكان، تلك الأماكن الموجودة في "اللامكان" التي تبدو على الخرائط التي يستعملها السياح العاديون في أسفارهم، وبمجرد ما يكونون في الخارج، في الخارج إلى ما لا نهاية: كل المطلوب هو سياج بأبراج مراقبة لجعل "اللانهاية" في اللامكان تظل إلى الأبد". وقد خلص باومان إلى إن "الوقت يسيل، ولم يعد يمضى للأمام، هنالك ما يتغير، دائما هنالك ما يتغير، تغيير جديد ومختلف، ولكن ليست هنالك وجهة ولا نقطة نهاية، ليس هنالك ترقب لمهمة مكتملة، كل لحظة معاشة محملة ببداية جديدة وبالنهاية في آن معا، كانتا قبلا خصمين وأصبحتا الآن توأما سياميا". المترجم سعد البازعي، باحث ومؤلف ومترجم سعودي،. له العديد من المؤلفات والأوراق البحثية باللغتين العربية والإنكليزية التي تتناول قضايا مختلفة في الفكر المعاصر والأدب الحديث ونظريات النقد الأدبي. كما أن له عددا من الأعمال المترجمة. المترجمة بثينة الإبراهيم كاتبة سورية، درست اللغة العربية وآدابها في جامعة حلب، تكتب مقالات في الدوريات العربية حول قضايا النقد الأدبي والثقافي، صدرت لها ترجمة الكتب التالية: “مبادئ الحوكمة: حول الإدارة في المنظمات غير الحكومية، و“مضحك بالفارسية: مذكرات امرأة إيرانية في أميركا” للكاتبة الأميركية فيروزة دوماس، و“ليكن الرب في عون الطفلة” للكاتبة توني موريسون. محمد الحمامصي
مشاركة :