داخل إحدى قاعات مركز متخصص في دمشق، يبتكر رياض حمص وشقيقته بشر، وهما من الصم والبكم، إشارات جديدة للتخاطب والتحدث عن الحرب التي تعصف ببلدهما سورية منذ ست سنوات. ومنذ اندلاع النزاع، الذي يدخل عامه السابع الأسبوع المقبل، بات ذوو الإعاقة من الصم والبكم في سورية بحاجة إلى استخدام إشارات جديدة للحديث عن الوضع الميداني أو للتعبير عن مشاعرهم ومعاناتهم التي أصبحت مضاعَفة. ومن التعابير الجديدة التي يستخدمها رياض وبشر، داخل مركز «إيماء» لخدمة الصم والبكم في حي الميدان، كلمة «داعش»، على سبيل المثال. وللتعبير عن ذلك، ترفع نائب رئيس المركز، وصال الأحدب (26 عاماً)، البنصر (ما يعنى حرف الياء بالإنجليزية) وتضم الإبهام إلى السبابة والوسطى (حرف السين بالإنجليزية) مرتين، ما يعني بالإنجليزية «ايزيس» أي تنظيم «داعش» بـ«العربية». ويعني وضع الإصبعين على راحة اليد كلمة «الحكومة»، نسبة إلى النجمتين الموجودتين على العلم السوري، أما وضع ثلاث أصابع على راحة اليد، فيشير إلى المعارضة، نسبة إلى النجوم الثلاث الموجودة على علمها، ووضع اليدين على العينين يعني «الخطف».• منذ اندلاع النزاع، الذي يدخل عامه السابع الأسبوع المقبل، بات ذوو الإعاقة من الصمّ والبكم في سورية بحاجة إلى استخدام إشارات جديدة للحديث عن الوضع الميداني أو للتعبير عن مشاعرهم ومعاناتهم التي أصبحت مضاعَفة. وتقول الأحدب، الحائزة إجازة في هندسة الطب الحيوي: «كان علينا ابتكار (إشارات) كلمات لم تكن موجودة بلغة الصم والبكم في سورية، ليتمكنوا من التواصل وتبادل المعلومات أو المشاعر حول سريان العنف». وبعد ابتكار هذه الإشارات، يتم تصويرها وعرضها على صفحة خاصة على موقع «فيس بوك»، حيث يتداولها ويناقشها الصم والبكم. ويوضح رئيس مركز «إيماء» علي اكريم، إنه رغم أن الحرب تركت تداعياتها على السوريين كافة، إلا أن هذه الفئة من ذوي الإعاقة تأثرت بالأحداث مضاعفةً، لأنها تعانيها من دون أن تتمكن من إدراك ما يدور حولها. وبحسب الإحصاءات الرسمية، يبلغ تعداد الصم والبكم في سورية نحو 20 ألفاً، لكن اكريم يشير إلى أن العدد الفعلي قد يكون خمسة أضعاف ذلك. الموت بصمت ويروي رياض (21 عاماً)، الذي يشارك في ابتكار المفردات الجديدة، تجربة مأساوية عاشها جراء الحرب، حين قتلت والدته وشقيقه وشقيقته، بالإضافة إلى خالته وعمه وثلاثة من أبناء عمه، برصاص قناصة على مرأى من عينيه من دون أن يدرك ماذا يحصل، لدى محاولتهم الهرب من الحي، حيث كانوا يقيمون على متن شاحنة. ويقول هذا الشاب، الذي تعلو وجهه ابتسامة خجولة، وهو موظف في أحد معامل الكابلات «بما أنني لا أسمع، لم أكن أدرك ما يحدث حولي، شاهدت أمي تهوي أمامي ثم تلاها أولاد عمي، لكن عندما شاهدت رأس شقيقتي ينفجر أمامي، أدركت حينها أنهم يطلقون النار علينا». لم تتوقف معاناة رياض هنا، إذ قتل شقيقه الآخر إثر سقوط قذيفة أثناء لعبهما كرة القدم في الشارع. ويحلم هذا الشاب، الذي لا يفارق خياله هذا المسلسل الدموي، بالسفر إلى الخارج، ويقول «أعتقد أنني قد أحظى بفرص عمل أفضل». ويواجه الصم والبكم صعوبة أخرى، تكمن في حواجز التفتيش المتعددة بالمدينة. ويوضح اكريم «عليهم أن يعبّروا عن أنفسهم عبر إشارات غير مفهومة، ويظن المشرفون (على الحواجز) في بادئ الأمر أنهم يسخرون منهم». ويضيف: «سابقاً (قبل النزاع) كان معظم الصم والبكم يتجنبون إدراج إعاقتهم على هوياتهم الشخصية، لكنهم الآن يسجلونها من أجل إبرازها للحواجز». وعانت أخته بشر (32 عاماً) أوقاتاً عصيبة بسبب سوء الفهم، ففي عام 2011 وجدت نفسها خلال عودتها إلى المنزل، وسط المتظاهرين المناهضين للنظام، فيما كان رجال الأمن يقومون بتفريقهم. وتقول الشابة التي تضع وشاحاً أبيض على رأسها إنها حاولت الهرب من دون جدوى في إحدى أزقة حي الميدان. وتضيف: «لم يتمكن أحد من مساعدتي لأنني لم أقدر على التواصل، وكان الوضع يزداد سوءاً». وعند استجوابها تمكنت بأعجوبة من إفهامهم أنها صماء وبكماء. لم يشرح لي أحد بعد هذه الصدمة، لم تعد بشر تجرؤ على الخروج من منزلها، خوفاً من عدم قدرتها على العودة، لكن في منزلها اهتزت النوافذ وارتجت الأرض نتيجة القصف، وتروي «لم يشرح لي أحد ماذا كان يحدث، الجميع كان في حالة عصبية.. وكانوا يمنعونني من الاقتراب من النوافذ». واستولى مقاتلو الفصائل المعارضة على حي الميدان في يوليو 2012 لمدة ثلاثة أيام، قبل أن يتمكن الجيش من استعادة السيطرة عليه. ونزحت العائلة حينها إلى لبنان لمدة عامين، وعندما عادت إلى دمشق وجدت أن كل شيء قد تغير، حتى النادي الذي هجره رواده من الصم والبكم. وتقول بحزن: «لقد بعثرت الحرب كل شيء.. والناس الذين غادروا إلى الخارج ابتكروا مفردات جديدة»، مضيفة: «لقد تغير أصدقائي وأصبحوا عدائيين». وأضافت: «آمل أن نلتقي من جديد في يوم من الأيام، وأن يجد الصم والبكم لغة مشتركة».
مشاركة :