الفن الجميل يفتح أمامك مساحات نبض حية، وآفاق رحبة تكون معه كأنك جالس تتأمل صفحة ماء بحر أو نهر جار، ترى سطحه المتحرك فترحل معه أو يرحل بك إلى عوالمه التي تنطلق فيها أخيلتك، رحلة وجدتني في لجها مع نهر الفن المتدفق وردي، وأنا أتصفح كتاب فنه وحياته ونشأته، في رحلة إلى القرية السودانية «صواردة»، حيث مسقط رأسه، رحلة أسميتها (الصورة) لأن الصورة لا تكذب، وكما وثق وردي جمال الريف السوداني بتصوير مسموع، تكفلت ومضة كاميرا الفنان رمزي عثمان في محاورة المجتمع والفن من خلال الفوتوغرافيا في تلك المناطق. وأنا أهم بركوب البص السفري المتجه لهنالك تمثلت أمامي نفحة الشاعر جوته القائل: من أراد أن يفهم الشعر فليذهب إلى بلد الشعر و من أراد أن يفهم الشاعر فليذهب إلى بلد الشاعر إن هذه الدعوة تلخص وتعطي ملمحاً مضيئاً عن رحلتي، فوردي شاعر أيضاً نثر درر من قصائد بالنوبية وتغنى بها مطرباً الجميع هنالك، لكن ما يهمنا في رحلتي ليست شاعرية وردي ولا فنه، بل تكوينه الفني، أي البيئة التي خلقت من وردي فناناً... بيئة ما فتئت تنجب مبدعين، وردي، كبوش، المصور العالمي رمزي عثمان والقائمة تطول، لتضعك أمام تساؤل عن سر ذلك التفرد. صواردة، نلوة، صادنقا كل تلك الأمكنة من قرى السودان في شماله شكلت مزاج وشخصية فنانين ارتقو بذوقنا وثقافتنا البصرية... فالزائر لتلك الأماكن يتخيل أنه أمام لوحة فنية. صواردة قرية تحمل للقادمين إليها دهشة ريشة فنان تشكيلي في رسم أنثى ممشوقة القوام، كل شيء فيها تنطق فناً وجمالاً. جزر وجناين نخيل وبيوت كلها أماكن تحكي عن عبقرية إنسان كلما قُهر ودُمر وهُمش نثر فكراً وإبداعاً وثقافة وتسامحاً وجمالاً. أماكن تضعك أمام لوحة فنية تعقد حاجب الدهشة، تكفلت ومضة كاميرا المصور العالمي رمزي عثمان أحد أبناء المنطقة بتخليد كل لحظة من عمر زمان تلك المنطقة. فرمزي هنالك يمثل اسماً بارزاً في مجال محاورة المجتمع والفن من خلال الفوتوغرافيا، حيث يشرك منذ سنين فئات اجتماعية مهمشة طوال عمر الحكومات الوطنية في أعمال تصويرية، أطفال، نساء، رجال، شباب وطبيعة أيضاً. فالمتابع لهذا الرجل السبعيني المهموم بقضايا تلك المناطق من السودان يرى أن الصورة لديه عبارة عن لحظات زمنية مكثفة يريد أن يقبض عليها قبل أن تصبح ذكريات. صندوق ذكرياته تلك شنطة مزينة بالصور، صور شخصية أو لمناسبات أو لدول قام بزيارتها من قبل، أو لطبيعة المنطقة وآثار تلك الحضارة الإنسانية التي تحتفي بها الإنسانية جمعاء، آثار الحضارة النوبية التي تتعرض للسرقة على مسمع ومرأى الجهات المسؤولة هنالك. تجولت مع رمزي في كثير من المناطق الأثرية هنالك من ضمنها منطقة صادنقا الأثرية شمال قرية نلوة التي تتبع لوحدة عبري الإدارية، فالزائر لتلك المنطقة لا تغفل عيناه تلك القطعة الأثرية المهملة المتناثرة دون حراسة للقرية الأثرية ما جعلها عرضة لكثير من السرقات كما يؤكد أهالي المنطقة والناشط النوبي والمصور العالمي رمزي الذي وثق لكثير من حالات السرقة بالصورة. ولكن كانت صدمتي أكبر عندما قمنا بزيارة لمنطقة أثرية أخرى تبعد من قرية صادنقا الأثرية مسافة 2 كيلو متر جنوب قرية نلوة وشمال قرية صلب الأثرية تسمى (شيشي خليل) على شاطئ النيل. فتلك المنطقة تجسد حال الأماكن الأثرية بالشمالية، قرية أثرية دمرت بالكامل، تعكس حالها أنها تعرضت لهجمة شرسة من ذوي القلوب الضعيفة في ظل غياب كامل أيضاً للتأمين الشرطي، نبش للمدافن التاريخية، سرقة، وتكسير ما تبقى من الآثار على حد قول رمزي. كل تلك المآسي لهذه الحقبة المشرقة من تاريخ السودان يخلدها رمزي في ألبوم خاص لمواجع تلك المنطقة. ونحن نفارق تلك المنطقة إلى صواردة ارتسمت علامات حزن في وجه محدثي عجز معه الحديث، عكس ما كان عليه من قبل وهو يحكي لي مفاتن طبيعة المنطقة، ودخل في صمت يغلفها زفرات أسى لما أصاب الآثار. وصلنا صواردة وقد ساد الصمت بيننا كالسكون على ذلك الشاطئ، إلا من وشوشات أمواج آتية من حيث لا أدري، ترتمي على رماله التي تمتصها وكأنها تطبع على الشط قبلة آتية من أفق النيل، من شيشي خليل، إرو وجزرها.. من (صلب)، من جزيرة أوشبة، قبلة كأنها أتت لتستريح على شاطئ صواردة، الشاطىء الذي يسكنه السكون ويحلم به الشعر وتتغذى من ألوانه العيون، ليعطي إنسان المنطقة غذاء روحيا وإحساساً بكل ما في الحياة والطبيعة، والإنسان يصل إلى فهم الحياة والتعرف على أسرار جمالها، هو ذاك الإنسان المثالي، لأن الفن لا يحيا إلا في الحياة وجوهر الحياة الطبيعة المتمثلة بأشجارها، جبالها، سهولها، نيلها، ناسها، حيواناتها، أزهارها، أشواكها، فرحها وحزنها، نهارها، ليلها، نورها وظلماتها. كل هذا.. وأكثر.. هي الطبيعة في الريف السوداني التي تفرخ لنا مبدعين دائماً يسمون بنا لنرى معنى الجمال (جمال الحياة).
مشاركة :