مدينة أحمد علي الزين يبقى اسمها» بيروت»

  • 4/25/2014
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تدور رواية» بريد الغروب - ثلاثيّة عبد الجليل الغزال»(دار الساقي) للروائي والإعلامي اللبناني أحمد علي الزين، حول «هدى» الكاتبة باسم مستعار «تالة السويحان» ، و «عبد الجليل» اللذَين عانا، ما عاناه اللبنانيون في زمن الحروب المتتالية. رواية ذات نفس ملحمي في تصويرها الأحداث، والدخول في أعماق النفس المظلومة والمعذبة. تقف «هدى» أمام المرآة، ليس بهدف سؤالها عن المرأة الأجمل، وإنما لتسألها: «مَن يأخذ حق الناس؟ مَن يعيده لهم عندما يُسلَب منهم كاملاً؟ مَن يردّ لهم كرامتهم حين تُداس ؟ مَن؟». ليالٍ عمياء مرّت على بيروت. كلّ شيء يرتطم بكل شيء، كائنات وأشياء وأرواح تتصادم بعشوائيّة وتصرخ في أقصى الألم، وهو أشدّ من عمى «هدى» الهستيري الذي أصيبت به جرّاء خضوعها لعملية رتق بكارتها، إثر علاقة جنسيّة أقامتها مع حبيبها/أستاذها «شوقي». ثم وقعت في الصمت والاستسلام. فالاغتصاب لا يعدو كونه نوعاً من القتل. ينطلق الكاتب من حالة «هدى» الخاصّة ليصوّر، تصويراً واقعياً حقيقياً، الإيديولوجيا التي يؤمن بها ويعيشها أهالي تلك المنطقة، وربما أوسع من تلك المنطقة بمساحات شاسعة. تقول «هدى» بشيء من السخرية المؤلِمة: «صوتها (الأم) دائماً معلّق في رأسي ينّبهني على صون عذريّتي باعتبارها هي جواز السفر إلى كندا، وهي الجدار الذي يحمي العرض من السقوط ويمنع الأعداء من غزو البلاد». وفي مكان آخر: «كنت أشعر بأنّ هذا الشيء من بدني لا يخصّني وحدي بل تتشارك ملكيته أمي وأبي وأخوالي وأعمامي وعماتي وخالاتي والجيرة والبلدة والمدينة والوطن والأمة العربية، والتصرّف به لا يتمّ أو يجوز إلا بتنازل الفريق الآخر المشارك، كم كان يحيّرني هذا المُلك». وأمام هذا «الجرم» الذي قامت به، ولأن خيال الناس خصب حين تقع المأساة خارج بيوتهم، كان لا بدّ من ترحيل «هدى» إلى بيروت، إلى منطقة «وادي أبو جميل». وبدأت أوجه المــقارنة بينها وبين مدينة «بيروت»: «كنت أنا والمدينة نتفتّح كالورد، قبل الحرب، قبل أن تنهك ونغتصب». وفي مكان آخر: «كانت كلتانا مصابة، المدينة وأنا، كأنّي كنت أسمع صراخها، نعــم كأنّها كائن مثلي موجوع ومهان ويصرخ». وكذلك تقول هدى: «كنت أرى المدينة تُهتَك وتغتَصَب كبدني، عبر ميليشيات الحروب وجيوش التحرير». أحداث أليمة مرّت على المدينة وعلى سكانها، وأصبحوا تحت رحمة وإمرة أشخاص يدّعون الثورة في الظاهر ويقومون بعمليات النهب ليلاً. كالثوري «أبو لنبه» الذي عرفته «هدى» من صوته. فهو يتولّى عمليّة النهب، وفي الوقت نفسه، يتولي عمليّة تحرير فلسطين بعد «تطهير الداخل من العملاء». كلام منافق. ثمّ تدخل في متاهة العمى والبصر وربط الحالتين بالعلاقة الجنسيّة. فقدت «هدى» بصرها عندما اجتمعت والدتها والداية لرتق عذريّتها. أما في بيروت، عندما مارست الجنس مع جارها «عبد الجليل» المناضِل، عاد لها بصرها. «لست متأكّدة من أنني أبصرت». «هذا يعني أنّني أبصرت، أو هكذا تهيّأ لي. أبصرت نعم أبصرت بشكل كامل، وليس كالمرّات السابقة التي كنت أرى فيها الأشياء غبشة، لا أحد يصدّق أنني أبصرت، لقد عاد لي بصري». لكنّ شقة الحب تحوّلت إلى مقرّ للاستخبارات، وتحوّلت الأيام إلى كوابيس، حتى تمنّت البطلة مراراً لو أنها تُصاب بطلقة أو تنتحر لأنّ العمى وحده فيما لو عاد سيكون عذاباً مضاعفاً. لكنها، على رغم ذلك، أرادت أن تلعب مع الغامض والمجهول. أرادت الذهاب بهذه اللعبة إلى نهايتها. لعلّه الحزن هو الذي يُملي عليها ما تقوم به. وهي تقبل من دون تردّد... لكنها تعود إلى التيه، بخاصّة بعد خطف «عبد الجليل» ووضعه كشيء في صندوق السيارة. تخلخلت علاقتها بالزمان والأحداث حتى بدت كأنها تسكن صورة العالم أكثر من العالم نفسه. أصبحت صورة والدها معلّقة في بالها متماهيةً بصورة «شيرا» (زوجته) والدة «جيهان» (أختها). وصورة والدتها متداخــلة بصورة الداية عيشة. صورتان لكلّ منهما وخز موجـــع، وصورة «عبد الجليل» وهو يُجرّ ويُخطَف. مع نهاية الفصل الأول من الرواية، حيث من المفترَض أن يتمثّل الجوهري، في العنوان «بريد الغروب»، يتحول ما هو مفترَض، على رغم تحقّقه، إلى حيّز آخر، عنوانه: الرمز، لما فيه من إشارات أراد الكاتب الإيحاء بها من خلال العنوان. تقول هدى: «اقتلعت قلبي ثانيةً وكســـرت روحي هي التي جعلتني أروي ما أروي وأتذكّر ما أتذكّر وأكتب رسائل أودعها صندوق بريد الغيب هناك في البحر». إذاً لا بريد ولا متلقّي، أما الغروب فهو الغيب الضبابي. وعلى هذا، فإنّ الانشغال بحدود ملامح العنوان في «بريد الغروب» سؤال لا معنى له. بعد أن انتهت «هدى» وحيدة مع رسالة وصور وحكايتين وبيتين مهجورين: «يا ضيعانك يا بيروت»، أقولها بحسرتين بحسرة المبصِرة وبحسرة العمياء». ننتقل من الفصل الأول «وقائع اغتصاب تالة سويحان» حيث تتفرّد «هدى» بالسرد إلى الفصل الثاني» العودة إلى البيت «ليستلم عبدالجليل دفّة السرد، بمفرده أيضاً. والبيت هنا غامض، ضبابي، لا أحد يعرف أين هو، متى وكيف يصلونه. أما هذا الفصل فما هو إلا استكمال للفصل الأول، إذ يبدأ من لحظة خروجه من السجن في الصحراء، بعد مضي ثلاثين عاماً على توقيفه. خرج يتطلّع في هذه الوجوه ويفكّر أنّه منذ زمن بعيد لم يشاهد هذا التـــنوّع البشري. اعتاد لثلاثين سنة على رجال في لباس من لونين: الكاكي للحرس والرمادي الجارد للسجناء. ولا بدّ من أنّ الذي صمّمه وأراده كان مدركاً أنّ هذا اللون ينسي المرء بقيّة الألوان، وهو أقرب إلى فعل العماء، وهذا شكل من أشكال التعذيب. منذ زمن لم يرَ هذا الكمّ من الألوان، لم يرَ طفلاً أو امرأة أو شاباً أو أشـــياء تخصّ عالم الأحياء، ما عدا تلك العصابة التي اختطفته لغاية أن يكون قاتلاً وليس قتيلاً. ربما اختار أحمد علي الزين، أن يقف في روايته هذه على حافة العدم وينظر إلى العالم، من خلال «عبد الجليل». فمنذ خروجه من السجن، أو قبل دخوله إليه، والرواية تنظر بدقة إلى عمق غائر في النفس، وهذا لا يستطيعه إلا المصابون بالرهافة القصوى. رواية كأنّ الخيال فيها ولود، خيال يلد خيالاً يلد خيالاً. من رسم للبطل هذا المصير؟ هذه الدرب؟ من وضع له هذه الفخاخ والأشراك؟ مَن جعله غير قابل للموت وهو في الموت عينه؟ مَن؟ عجيب أمر هذا الزمان. الكثير ولا شيء. يلتقي عبد الجليل بـ «موسى» خلال رحلة بحثه عن أهله. ويطلب إليه أن يحرقه عندما يموت. فنفّذ «موسى» الوصية. لكنّ البطل لم يمت، أو أقلّه السارِد «عبد الجليل» بقي سارداً حتى آخر سطر وهو يراقب جثته من لحظة مماته، ووضعها على الدابّة، والصعود بها إلى القمّة، وبالتالي حرقها. يقول الميت «عبد الجليل»: «في الليل هبّ الهواء وطيّر رمادي نحو الغابة، تساقطت على الأغصان كنفناف، تساقط بعضي على أجنحة طيور هاجعة في الشجر، لم تشعر بهذا الرماد... زاولت غفوتها، وزاولت فنائي». هي بيروت إذاً، التي اختارها صاحب «حافة النسيان» و «صحبة الطير»، مكاناً وموضوعاً لروايته الأخيرة. هي بيروت، حيث أشياء كثيرة تتبدّل وأشياء كثيرة تزول، أشياء يتلفها الزمان وأخرى تأكلها الحروب، ويبقى اسمها بيروت، الأسماء وحدها تنجو من التلف. رواية

مشاركة :