يطرح فيلم «محبس» (solitaire) قضية اجتماعية لطالما أثارت الجدل في لبنان، ألا وهي تلك العلاقة التي تربط ما بين الشعبين السوري واللبناني ومشاعر العنصرية التي تتحكّم بها. فهذه الإشكالية الحاضرة بين الطرفين والتي تترجمها نظرة أفراد بين البلدين لبعضهما منذ فترة طويلة، تناولها الفيلم بموضوعية ولوّنها بمواقف كوميدية ساهمت في إيصال الرسالة الإيجابية التي يحملها الفيلم ضمن أسلوب جذّاب، مما يدفع بالمشاهد إلى تلقفّها تلقائياً دون الحاجة للانحياز في صفّ المواطن السوري أو العكس. ولا تنحصر موضوعات الفيلم بهذه الناحية فحسب، إذ يتطرّق إلى أخرى تنطوي على أمور أساسية في حياتنا وبينها العلاقة الزوجية والخيانة والحوار الغائب بين الأهل والأولاد، وكذلك بقاء الإنسان سجين الماضي بكل ما لهذه الشائبة من تأثير سلبي عليه. وفي هذه الأخيرة أبرزت المخرجة العلاقة اللافتة التي يمكن أن تتحكم بنا عندما يتعلّق الأمر بالتناقض بين عقلنا الباطني ولسان حالنا. فاستخدمت صوراً فوتوغرافية معلقة في كل مكان تمثّل شقيق والدة العروس الميت والذي ما زالت تحدثّه باعتباره حيّاً يرزق. كما تمر مشاهد أخرى تظهر الانسيابية في العلاقة بين الطرفين والناحية الحلوة فيها، فتستعيد العائلة اللبنانية ذكرياتها مع أغنيات القدود الحلبية لأهم مؤديها صباح فخري ومشاوير القصّاع وتجوالها في سوق الحميدية. وتدور قصة الفيلم حول قدوم شاب سوري (جابر جوخدار) مع أبيه (بسام كوسى) وأمه (نادين خوري)، لخطبة حبيبته اللبنانية (سيرين الشامي) من والدتها (جوليا قصار) ووالدها (علي الخليل). ويدخل على الخطّ الجارة المقرّبة من العائلة اللبنانية (بيتي توتل) والتي تجسّد دوراً كوميدياً بامتياز. ولتتوالى الأحداث التي تجري في يوم واحد مولّدة الانفجار في العلاقة بين العائلتين ولتقضي عليها مشاعر الحبّ في النهاية. في اللحظات الأولى للفيلم بدت المشهدية العامة له عادية إلى أن صارت تأخذ منحى تصاعدياً مع لحظة الكشف عن شعور الوالدة الصريح تجاه السوريين، هي التي فقدت أخاً لها في الحرب بعد أن قتل بقذيفة سورية. يقدّم الفيلم العائلة اللبنانية الحقيقية التي تعيش في إحدى المناطق الجبلية في مستوى معيشي عادي بعيداً كلّ البعد عن الأرستقراطية، عكس تلك التي تعيش في كنفها العائلة السورية، والتي حاولت المخرجة صوفي بطرس إيصالها إلينا إن من ناحية أناقة والدة العريس اللافتة، مروراً بالمحبس الماسي (خاتم الخطوبة) الذي يحمله الخطيب لخطيبته، ووصولاً إلى انكشاف الأمور على حقيقتها في العلاقة اللامتوازنة التي تربط ما بين الخطيبين بسبب ذلك الاختلاف الطبقي. وعلى الرغم من أن هذه النقطة بالذات تفرج أسارير الوالدة اللبنانية أحياناً انطلاقاً من الفوقية التي تشعر بها تجاه السوريين بشكل عام، فإنها لم تستطع وضع حدّ للأفكار المسبقة التي تسكن عقلها الباطني، فيلمس المشاهد من خلالها أن الأمور لا تطمئن وبالتالي لا تبشرّ بالخير. عملت المخرجة التي كتبت القصة بالتعاون مع صديقتها الأردنية ناديا عليوات على تكرار عبارات معيّنة خلال مجريات الفيلم كسرت فيها حدّة أي موقف مشدود أو محرج قد تتعرض له العائلتان في سياقها. وأجاد بسام كوسى لعب دور الرجل السوري الذي يحب التعمّق في الأمور من خلال طرحه أسئلة غنية بالحشرية على الآخرين، متسبباً بمواقف محرجة للعائلتين معاً. إلا أنه كان لا يلبث أن ينقذ الموقف بعبارته الشهيرة في الفيلم (إنو مش أحسن ما نقعد من دون كلام مثل الأصنام)، فينقلب الموقف إلى كوميدي بعد أن يردد المشاهد معه العبارة نفسها. أما الممثلة السورية نادين خوري فقد جسّدت شخصية أم العريس المتشاوفة والفخورة بنفسها إلى أبعد حدود، لنستشّف من خلالها عدم اقتناعها ورضاها على الموضوع برمته. فتميزت من خلاله بأداء متمكّن مزج ما بين الطرافة والجديّة بشكل محترف. لم تختر المخرجة الممثلين تيمناً بأسمائهم كما قالت بل لأنهم يلائمون الدور الذي يلعبونه بكلّ جدارة. وهذا بالفعل ما أدركه المشاهد مع الممثلة القديرة جوليا قصّار، التي وضعت تجربتها التمثيلية الغنية في خدمة الدور، بحيث تمكّنت من مخاطبتنا بنظراتها أحياناً، وبملامح وجهها أحياناً أخرى، فشكّلتا لغة تمثيلية إضافية إلى أدائها المحترف. أما الممثل علي الخليل، والذي يطلّ على جمهوره بعد غياب، فقد بقي متمسكّا بحضوره الأخاذ على الشاشة من خلال أدائه الطبيعي المتميز ببساطة الحركة بعيداً عن الاصطناعية. وكانت الممثلة الشابة سيرينا الشامي خير مؤدية لدور شبابي يدور في فلك الرومانسية، وكذلك الأمر بالنسبة لشريكها فيه جابر جوخدار السوري والذي لديه في تجربته السينمائية أكثر من عشرة أفلام معروفة. خصصت مخرجة الفيلم لطبيعة لبنان وعاداته وتقاليده مساحة لا يستهان بها، فنقلتنا إلى أجواء القرية اللبنانية (صوّر في منطقة المتن) الساكنة بعفوية أهلها والهادئة بطبيعتها الخلابة. صوفي بطرس التي لم تكن تفكر يوماً بدخولها عالم السينما ختمت الفيلم على طريقتها عندما غنّت فيه شارة النهاية (يمكن)، هي المعروفة بأنها تأتي من عائلة موسيقية كون شقيقها زياد هو ملحن معروف وشقيقتها جوليا بغنى عن التعريف. يذكر أن فيلم «محبس» شارك في مهرجان دبي السينمائي 2016 وقد ساهم في تكاليف إنتاجه ثلاثة مستثمرين لبنانيين، رغبوا في دعم فكرة الفيلم كونه المشروع الأول لصوفي بطرس فقدّموا مبلغاً من المال كجزء من تكلفة العمل، إضافة إلى مساهمة أخرى من قبل راديو وتلفزيون العرب.
مشاركة :