لم أصدق ما قاله لي صديقي الذي وجد فجأة أن البعثة الدراسية الداخلية لابنه تم إيقافها، على رغم انضباط الطالب والتزامه وحصوله على المعدلات المطلوبة، هل تعلمون لماذا حدث ذلك؟ قرر هذا الطالب الطموح أن يعمل في القطاع الخاص وأثناء دراسته بنظام الساعات في إحدى المؤسسات، بدلاً من التسكع وإهدار الطاقة بما لا ينفع. وقد فعل ذلك بالفعل، وعندما ظهر اسمه في قوائم التأمينات الاجتماعية موظفاً واطلعت وزارة التعليم على ذلك هبوا إلى إيقاف البعثة. الوزارة هنا كأنها تقول: لا نريد من الطالب كسب أي خبرات متنوعة أثناء الدراسة، نريده جديداً بـ «قرطاسته» كما يقال حتى تصبح عملية بحثه عن الوظيفة بعد التخرج عملية شاقة ومضنية. معروف بالطبع أن السيرة الذاتية الأغنى في تجربة صاحبها هي الأكثر حظاً من غيرها في قبول منشآت القطاع الخاص، ولذا فهذا الطالب ولإدراكه ذلك قرر العمل. تمنيت أن أجد سبباً واحداً مقنعاً لتصرف الوزارة ولم أجد. المؤكد أن هذه الأنظمة البالية ومنها هذا النظام ليس وليد هذه الأيام بل ولا حتى السنوات القليلة الماضية، إذ لا يمكن أن يوجد موظف في وزارة التعليم اليوم قد يتفق معه. المؤكد أنه من التراث القديم الذي لم يتبرع أحد بإزالة الغبار عنه، وما أحوجنا إلى مراجعة التراث ليس فقط في شأن وزارة التعليم وأنظمتها، بل في جميع مناحي حياتنا المعاصرة وتفرعاتها! هذا ليس تنظيراً، إذ إن كاتب هذه السطور وجد نفسه في بدايات زمن البعثة الدراسية في أميركا يعمل في متجر «السيف واي». نعم عملت هناك بضعة أسابيع مصففاً للبضائع وعملت بعد ذلك منظفاً للصحون في مطعم ومأمور خدمة في محطة محروقات. هذه الوظائف البسيطة، إضافة إلى كونها تشكل دخلاً مالياً إضافياً، كان لها أكبر أثر في حياتي العملية وهو أثر إيجابي ولله الحمد. في قائمة تلك المنافع الشعور باحترام المهنة مهما اختلفت وتنوعت والابتعاد من تحقيرها وتحقير من يؤديها. خدمة العملاء والسبل الكفيلة بالاحتفاظ بالعميل هي الأخرى في غاية الأهمية، وأحسست بذلك من الأسبوع الأول. من يقرأ سيرة سام وولتون مؤسس أكبر سلسلة متاجر في العالم (وول مارت) سيكتشف أن هذا الرجل بدأ حياته صبياً في دكان صغير لبيع الملابس. حتى عظماء التقنية اليوم ومنهم بيل غيتس أثرى أثرياء العالم عملوا في وقت من الأوقات في مثل هذه الوظائف. بل إن السواد الأعظم من طلاب الجامعات في الدول المتقدمة الغنية يعملون في مهن متنوعة لدعم تكاليف الدراسة الجامعية الباهظة التكاليف، حتى لو كان أهلهم من الطبقة الغنية. في المملكة لا ننادي فقط بإلغاء هذا النظام التعيس والضار، بل يجب أن ندفع الطلبة إلى العمل، باعتباره جزءاً من برامج بناء الإنسان القوي المنتج الواثق بمهاراته. المثير للاستغراب أن جامعاتنا تطلب من المتخرج القيام بعمل ما لمدد تراوح بين شهرين وأربعة أشهر قبيل تسليمه شهادة الدرجة التي حصل عليها. هذا يناقض روح تلك المادة التي لا أعلم من وضعها ومتى. لو نفعّل هذه المبادرات الخلاقة ونحفّز الطلبة على العمل أثناء الدراسة لقللنا وفي شكل كبير من تكرار مقولة أن مخرجات التعليم لا تتناسب مع الوظائف المطلوبة. التعليم الجامعي وأقصد الحصول على الشهادة الجامعية وبخلاف المواد العلمية المهنية كالطب والفيزياء وغيرها، لا يكفي وحده ضماناً للوظيفة ما لم تصاحب ذلك تجارب شخصية ناجحة. صدقوني قابلت في حياتي المئات من الذين يتقدمون للوظائف، منها وظائف صغيرة ومنها وظائف إدارية عليا، وأكثر ما كان يشدني إلى هذا أو ذاك هو الوقت الذي بدأ فيه هذا الشخص ممارسة العمل حتى لو لم يبدأ إلا معقباً يحمل الأوراق بين الإدارات الحكومية. هذه المعلومة تمنح الانطباع بهمة الشخص ووعيه الباكر في اعتماده على النفس. البعض ربما قد يخجل من وضع وظائف صغيرة ومتدنية الدخل في سيرته، وهذا خطأ كبير. لعل المرء يشعر اليوم بتفاؤل أكبر مع تعدد فرص العمل. أثناء كتابة هذه المقالة كنت على موعد مساء الخميس لحضور الحفلة الغنائية التي أقيمت بمركز الملك فهد الثقافي بالرياض وأحياها الفنانان محمد عبده وراشد الماجد وبحضور ٣ آلاف من الجمهور الوفي المتعطش للفن. سرتني وأفرحتني كثيراً مشاهدة مئات الشبان المشرفين على تنظيم الحفلة الكبيرة، كانوا يرتدون معاطف تحمل الدلالة على الأدوار التي يقومون بها لضمان الهدوء، وكانوا ينتشرون في كل المداخل والممرات، وطبعاً داخل تلك القاعة الفارهة. هؤلاء لم يكونوا متطوعين بل موظفين وافقوا على تأدية هذه المهمات في مقابل مكافآت مجزية. وهنا بالمناسبة نجد الرابط بين التنمية الاقتصادية وفتح فرص العمل الجديدة وبين الانفتاح والتسامح والرفع من جودة الحياة وتحسن وارتفاع مستويات الترفيه الذي طالما كتبنا عنه وطالبنا به. أقول ذلك لأن البعض لا يرى هذا الربط ويعتقد أن عودة الفن والمسرح إلى المدن السعودية بعد غياب طويل إنما هي مجرد لهو ومضيعة للوقت. أتمنى لو تتدارك وزارة التعليم تعديل هذه الشروط وتمنح الطلبة في كل المراحل حرية العمل في الساعات وتراقب سيرهم، بل ولا مانع من أن تضيف في مقابل ذلك درجات إضافية. بناء الإنسان المنتج يتطلب مثل هذه المبادرات، ومعظم الرواد حول العالم سواء في العلوم أم التجارة بدأوا بتأدية مهمات بسيطة في مراحل أعمارهم الباكرة، ثم تم صقل هذه المهارات المكتسبة التي دفعتهم بجانب تحصيلهم العلمي إلى النجاحات الكبيرة. * كاتب سعودي
مشاركة :