لم تستطع مادة السياسات العمومية تواجدها في مجال العلوم التي تدرس في الجامعات والمعاهد العليا على شاكلة العلاقات الدولية والسوسيولوجيا السياسية إلا في العقود الأخيرة في القرن الواحد والعشرين، وبالأخص في الجامعات الفرنكفونية؛ إذ ظلت هاته الأخيرة رهينة التقاليد الفكرية الموروثة الذين ركزوا على الدولة، بمعنى أنه تم التنصيص على كيان يستحوذ على المجتمع، يحدده ويساهم في توجيهه، فظل علماء العديد من أعرق الجامعات الفرنكفونية في الفضاء المتوسطي وعلى رأسها فرنسا رهينة التوجهات والثقافات القانونية والفلسفية للدولة، على خلاف الولايات المتحدة الأمريكية التي عرفت التأصيل للمفهوم منذ خمسينيات القرن الماضي، حيث كان لطغيان مبدأ «government» الفضل في تطور علم السياسات العمومية في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث ألفت عنها الكتب، وظهرت نظريات عديدة تؤصل للمصالح الجماعية والفردية التي تقوم بصياغة سياسات «هادفة» و»تنموية» تنطلق من قاعدة أساسية، وهي كيف يجب التفكير بتنموية أكثر وبمصاريف. هذا الاختلاف بين المدرستين الفرنكفونية والأنغلوساكسونية يذكرنني أيضا بالاختلاف المتواجد داخل علم السياسة، هل هذا العلم هو علم الدولة أم علم السلطة؟ فإذا استقيت مبادئ المنظرين القانونيين والفلاسفة الفرنسيين الأوائل سيقولون لامحالة هو علم الدولة، خلافا لنظرائهم الأمريكيين الذين سيقولون بأنه علم السلطة... فالسياسات العمومية تغير اليوم السياسة، ثم إن واقعها في ظل المتغيرات الدولية المعاصرة تفرض على الدوائر التي تأخذ القرارات وضع نظارات مغايرة لما اعتادتها؛ ففي مجال الأمن والدفاع والتأثير على مكونات النظام العالمي، يجب وضع نظارات استراتيجية شبه قانونية بدل نظارات قانونية فلسفية صرفة.. ولقد وصل العديد من الزملاء في الجامعات الفرنسية، إلى هذه النتيجة التي وصل إليها زملاؤهم الأمريكيون منذ أربعة قرون أو ما يزيد، في تفسيرهم للنظام الدولي، وبعد أمد طويل من المناهج الفكرية التقليدية التي قلصت من سعة الفهم والشرح والتنظير والتأثير عند المنظر وعند صاحب القرار على السواء. ولا غرو أن سياسات عمومية ناجعة وبناءة تكون لصيقة بتواجد عقول استراتيجية متميزة، ومن هنا دعوتنا الدائمة إلى الضرورة العلمية والفكرية والأكاديمية، والحاجة المعرفية، والانتهاج التوثيقي، التي تجعل رجالات الفكر في الوطن العربي يساهمون في هذا الباب بكتب إستراتيجية موضوعية في مجال العلوم السياسية والعلاقات الدولية والسياسات العمومية لجعلها مرجعا يحتذى بتوفير المعلومات، وتحليلها تحليلا علميا واستقائها من مصادرها الموثوقة، وتقديم موادها بحرفية عالية ورفيعة المستوى، إضافة إلى وسمها بكاملها، بالشفافية والموضوعية والدقة، ليتيح المجال واسعا ومطمئنا لآخذي القرار في البلدان العربية وللباحثين والمفكرين، والاقتصاديين ورجالات الدولة، ومحترفى الدبلوماسية والسياسة، الرجوع إليها... ثم إن قضية جمع الجامعيين والأكاديميين مع المسؤولين في كل القطاعات والخبراء غير الجامعيين يجب أن تكون في قائمة أولويات مثل هذا العمل على خلفية مركزية وقوة هذا الجمع في التحليل المقنع واستشراف المستقبل وبناء وعي فكري جديد حتى نعيد النظر في بعض أوهام عقائد المراحل الماضية وندشن لحقبة من النظر الهادف تكون أجزل عطاء. ولا يخفى على كل متتبع حصيف أن القيادات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العديد من دول العالم خاصة الغربية منها، تتأثر بما تقدمه مراكز الأبحاث الفكرية من دراسات وتقارير، بل إنها تؤثر على الرأي العام عن طريق مجموعة من الأساليب المتقنة، وإذا أخدنا مثال الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الإحصائيات تشير أنها تتوفر على ما يزيد عن 1400 مركز ومؤسسة تعنى بالعلاقات الدولية، منها مؤسسات تقدم دراسات وأبحاثا متخصصة في القضايا السياسية كمجلس العلاقات الخارجية الذي يصدر دورية شهرية وهي شؤون خارجية، ومنها مراكز الضغط السياسية التي تستخدم نتائج أبحاثها للضغط على الإدارات الأمريكية في صناعة القرار كمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية الذي يضم نخبة من السياسيين والأكاديميين البارزين كهنري كسنجر وهارولد براون؛ وهناك مراكز خلقت للدفاع عن مصالح إسرائيل كمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، والمعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي للدعاية لإسرائيل في المجالات الأمنية والعسكرية أو ما تسمى بالأذرع الفكرية الإسرائيلية في واشنطن، وهذه المراكز تتوفر على إمكانيات مادية وبشرية ضخمة وتؤثر بشكل جلي على السياسة الخارجية الأمريكية. أما في عالمنا العربي، فمازال عدد ودور هذه المراكز محدودا على الرغم من وجود قدرات فكرية وكفاءات بشرية متميزة يمكنها أن تساهم في التجدد المعرفي والتخطيط المستقبلي بل ويمكنها أن تساهم في التأثير على السياسات العامة الداخلية والخارجية؛ وهذا يجب أن يكون كنه أنشطة المراكز البحثية اليوم في وطننا العربي، لتكوين مدارس عربية، لتسدد بذلك فجوة كبيرة، وتقدم نظرات شاملة ومستقصية، وواسعة الأفق لكل مجالات الإستراتيجية والعلوم السياسية والاقتصادية والعلاقات الدولية وبما ستحملها من تراكم عرفي، ونمو مطرد في البيانات والكشوفات والإحصاءات والتقارير والبحوث بأرقامها وتواريخها....
مشاركة :