متى بدأ التدوين في العالم العربي تحديداً؟ يصعب تحديد ذلك، لكن الغالبية العظمى ترى أنه بدأ مع حرب العراق عام 2003. وكانت المدونات السياسية هي المحرك الأول لثورات الربيع العربي. وقدرت المبادرة العربية لإنترنت حر عدد المدونات العربية مطلع العام 2006 وقت فورة التدوين بـ40 ألف مدونة، لكن السؤال هو هل المدونون أوفياء لعهدهم مع التدوين أم أن التدوين قد "مات" وشيعته عوالم افتراضية أخرى كفيسبوك وتويتر وغيرهما؟ مدونون من ست دول عربية يخبروننا عن تجارب التدوين ومستقبله.سوريا ولعنة التدوين شكّل التدوين مساحة حرة للتعبير عن الآراء السياسية في وقت كانت الدول العربية تُحكم بقبضة من حديد من جانب أنظمة قمعية تخاف حتى من مجرد التعبير عن الرأي. أن تطاردك لعنة التدوين في حياتك وتزج بك في السجن سنوات من عمرك وتستمر معك حتى تنفيك من بلدك، بل وتستمر لتسجن أهلك كتهديد آخر لتقلع عما تكتبه، هذا بالضبط ما حدث مع المدون السوري إبراهيم العلبي الذي بدأ التدوين في 2003 تحت أسماء مستعارة في منتديات سورية كانت تنتقد النظام السوري قبل قيام الثورة السورية. يقول العلبي لرصيف22: "كنت أكتب تحت أسماء مستعارة مثل عمر الشامي، لكن قام أحد أصحاب مقاهي الإنترنت التي كنت أتردد عليها باستدعاء الأمن لأحصل على حكم بالإعدام، ثم يخفف بالسجن 12 عاماً، لكن بعد ذلك خرجت مع المُعفى عنهم بعد الثورة". العلبي الذى توقف عن الكتابة على صفحته الخاصة بفيسبوك لمدة شهر تقريباً بعد خروجه من سوريا إلى تركيا وبعد اعتقال النظام لأبيه وأخيه بتهمة التعامل معه، كورقة ضغط عليه ليتوقف عن انتقاد النظام، وجد أن النظام يتلاعب به، وأنه لن يخلي سراح أهله، حتى وإن توقف عن الكتابة ضده. ما زال حتى الآن ينتقد النظام من منفاه الجبري في تركيا وتظل صفحته على فيسبوك هي مدونته الخاصة. "دون أدنى شك، كل الأنظمة القمعية تخشى الكلمة الحرة لأنها تتناقض مع البيئة المناسبة لاستقرار هذه الأنظمة" قال العلبي لرصيف22. لعنة التدوين أصابت أيضاً حسين غرير أحد أبرز المدونين السوريين. سجن قرابة 3 سنوات بسبب كتاباته المعارضة. "بدأت التدوين في 2007 وتحديداً عند بدء الولاية الثانية لبشار الأسد، وكانت أول تدوينة لي من جزئين بعنوان: سبع سنوات عجاف أخريات"، قال لرصيف22. يقول غرير: "كانت حياتي قبل التدوين عادية، أعمل كمهندس معلوماتية، أتابع الشأن العام، خاصة الشأن السياسي والاقتصادي، وكنت حديث الاهتمام بمتابعة أحوال المعارضة السورية، وكان التدوين من المساحات القليلة الضيقة التي يستطيع السوريون التفكير معاً في شؤونهم العامة، بعد أن أغلق النظام كل منافذ الرأي". ويضيف المدون السوري الذي كانت أهم محطة في رحلته التدوينية تكريس مدونته "كلمة" ليومين متتاليين لنقل أخبار الثورة المصرية بعد حجب الإنترنت إبان الثورة: "الفرق الأساسي بين التدوين بشكله التقليدي والتدوين على وسائل التواصل الاجتماعي، هو أننا في المدونات نكتب قصة كاملة، أما على مواقع التواصل فنكتب جملة، تعليق سريع أي ببساطة "بماذا نفكر الآن" وهذا لا يسمى تدويناً". ويضيف: "سوف أبدأ خلال أيام بتدوين تجربتي في معتقلات النظام، فلا أريد لها أن تفلت مني".أقوال جاهزة شاركغردهل مات "التدوين" في العالم العربي وشيعته "السوشيال ميديا" إلى مثواه الأخير؟ شاركغردبعض من أشهر المدونين في 6 دول عربية يتحدثون عن تجارب التدوين ومستقبله...العراق... محاربة داعش إلكترونياً دخلت خدمة الإنترنت إلى العراق بعد عام 2003، وفي عام 2011 تم الإعلان عن تأسيس الشبكة العراقية للإعلام المجتمعي INSM، كأول شبكة تعنى بالتدوين في العراق وتضع أخلاقياته وقواعد السلوك فيه. وبعد أن تمكن تنظيم داعش من الهيمنة على الإعلام الإلكتروني للتأثير على معنويات الجيش والأجهزة الأمنية من جهة والمواطنين في المحافظات التي لم يتمكن التنظيم منها من جهة أخرى، كان لا بد من وجود إعلام موازٍ لنشر زيف ما يبثه التنظيم الإرهابي، وهو بالفعل ما يقوم به المدون العراقي تحسين الزركاني من خلال مدونته "قلم حر فضاء الحرية". يقول المدون الذي يقوم بنشر تدويناته مترجمة إلى الإنجليزية والفرنسية بمنصات أجنبية لرصيف22: "كنا نتبادل الصور الحقيقية لانتصارات داعش المزيفة كل في منطقته، ليتم ترجمتها وبثها عبر المنصات نفسها التي كان داعش يبرع في استخدامها، لننتقل الى المرحلة الثانية بصناعة وسوم وهاشتاغات تدعم الجيش والأجهزة الأمنية وتظهر انتصاراتهم في المدن التي باتت تحررها وتطرد مسلحي التنظيم منها، ونركز على حجم الخسائر التي يتعرض لها داعش، لمعادلة الكفة ورفع الروح المعنوية للمواطنين، لنصل الى المرحلة الثالثة باستخدام الوسوم التي يطلقها التنظيم للترويج لانتصاراته ونبث من خلالها مواد إعلامية تثبت هزيمته في المدن التي يدعي النصر فيها". ويضيف الزركاني: "التدوين بالنسبة لي حياة خاصة لن أتخلى عنها أبداً، ولا يمكن أن تمحوها أي وسائط تكنولوجية حديثة، فقد أتخلى عن عملي كصحافي ولا أتخلى عن التدوين".فلسطين... الأرض والهوية عمر عاصي أحد أهم المدونين الفلسطينين الذي وجد في التدوين ضالته للإجابة على الأسئلة التقليدية حول الانتماء واللغة والتاريخ والدين. ويرى المدون الذي كان يتابعه أكثر من 50 ألفاً على صفحته على فيسبوك "عمر توك" أن التدوين سيبقى مهماً ما دامت هناك أسئلة تثار في العقل العربي. "نحن لا نفعل شيئاً كمدونين إلا أننا ندوّن التجارب كنوع من تبادل الخبرات والحث على فهم الواقع أكثر والتحرك إن لزم الأمر"، قال لرصيف22. ويضيف عاصي: "هناك تدوينات معينة كانت تُتابع ردود الأفعال، وبالأخص تدويناتي حول "بلاد أبي فطرس" مثلاً، دونت فيها رحلاتي في منطقة "نهر العوجاء"، وما فيها من جمال آخاذ. كما كتبت عن القرى المهجرة وما تبقى منها هناك". وعن استمراره في التدوين يقول: "التدوين عندي هو نمط حياة وليس تسلية، وما دام هناك احتلال وآهات في عالمنا فلا بُد أن نكتب... عسى حروفنا أن تنفع أحدهم، وأثق أن هناك من يستفيد وإن قلت المتابعة، لأنني استفدت كثيراً من حروف غيري أيام جهلي".المغرب... ملاحقة المدونيين بنكهة ملكية ربما يختلف التدوين إلى حد كبير مع عدد آخر من الشباب الذين يرون أن التدوين من خلال المدونات الشخصية المعروفة Blog، لم يعد مستساغاً مع وجود عوالم افتراضية أخرى. المدون المغربي مصطفى الحسناوي هو أحد هؤلاء، يقول لرصيف22: "يبدو لي أن المدونات الشخصية التقليدية لم يعد لها أي مستقبل، لذلك أنشر بشكل منتظم على منابر عدة أهمها "مدونات الجزيرة"، وأتفاعل مع حسابي الفيسبوكي بشكل كبير". ويضيف الحسناوي: "ابتداء من سنة 2006 بدأت بنشر مقالات رأي تنتقد الأوضاع السياسية وبعض المظاهر الاجتماعية في البلاد في عدد من المنابر الورقية والإلكترونية، ومع انطلاق ما سمي بالربيع العربي مباشرة نشطت على فيسبوك ويوتيوب، مما سبب لي مشاكل مع السلطات، فكان الاعتقال، بسبب مقال عن مراسم البيعة للملك الذي يحوي طقوساً أشبه بالركوع، وكانت السلطات أذكى من أن تعتقلني بسبب مقال، فلفقت ليّ قضية "إرهاب" حتى أن فريق الأمم المتحدة العامل المعني بالاعتقال التعسفي طالب بالإفراج عني ودفع تعويضات لي".تونس... مدونون على صفيح ساخن راشد الخياري أحد المدونين التونسيين. بدأ التدوين مع حاضنة اجتماعية معارضة للنظام البائد باعتباره ابن سجين سياسي عتيد في سجون بن علي. يقول الخياري لرصيف22: "لم يكن دخولي هذا العالم صدفة بل نتاج تراكمات لسنوات الجمر في تونس، وكانت ذروة هذا العالم بالنسبة لي يوم إطلاق مدونة "الصدى" في 14 يناير 2013. حينها تحولنا لعالم الاحتراف في التدوين، حيث يمثل المدون الإعلام البديل الذي كسر سطوة الإعلام التقليدي المهيمن على الساحة و المدجّن للشعب". ويضيف: "ما زالت للتدوين سطوته، وغالباً ما ينتهي بي المطاف أمام الملاحقات الأمنية والقضائية، فما سلطت الضوء على فاسد أو ظالم أو لص مسؤول، إلا واستعمل نفوذه ضدي، وهذا دليل على حجم قوة التدوين. وإلى الآن أطارد أمام القضاء المدني والعسكري". ويستطرد: "يكفيني شرفاً أنني أول من نشر وثائق عن فساد رجل الثورة المضادة الأول في تونس كمال لطيف، إذ نشرت بالوثائق حجم الأموال التي نهبها من الدولة. ويبقى التدوين السلاح الفتاك الذي نحارب به الدولة العميقة وأذرعها الفاسدة ولا يمكن مطلقاً العزوف عنه".مصر... مات التدوين مدونة الوعي المصري لوائل عباس كانت طليعة المدونات التي دعت للتغيير السياسي في مصر قبل ثورة يناير بسنوات، لكن اختفت المدونة الآن. يقول صاحبها عن اختفائها لرصيف22: "طبيعي أن تختفي المدونة، فالتدوين لم يعد هو الشيء المبهر كما كان في الماضي والأضواء مسلطة بشكل أكبر على وسائل التواصل الاجتماعي. معظم المدونين المصريين لا يهتمون بالتدوين في الوقت الحالي، وبعضهم توقف عنه فعلياً، وغيرهم نجحوا للانتقال للكتابة التليفزيونية مثل غادة عبد العال صاحبة مدونة "عايزة أتجوز"، والبعض أيضاً تحول للعمل في مواقع صحافية، وبالتالي تغير حال التدوين في مصر بتغير الحالة العامة والمزاج العام، فالتدوين أصبح شبه ميت". ويضيف: "مثلاً آخر بوست على مدونتي كان في 2013 لكن أكتفي الآن بالكتابة على صفحاتي الشخصية على فيسبوك وتويتر وإنستجرام، فظروف التدوين نفسها لم تعد ذات أهمية مثل بداياتها الأولى". ولا ينفي عباس أن وسائل التواصل الاجتماعي، بالرغم من أنها وسيلة من وسائل التعبير عن الرأي، أصبحت أيضاً وسيلة لاصطياد المعارضين للنظام وزجهم في السجون والتنكيل بهم بسبب الأفكار المخالفة للنظام، فحالة حرية الرأي والتعبير في مصر "زي الزفت"، على حد تعبيره. كلمات مفتاحية العراق المغرب تونس سوريا فلسطين مصر وسائل التواصل الاجتماعي التعليقات
مشاركة :