لمة العيلة

  • 7/30/2013
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

أكثر ما أتذكره من رمضان الزمن الجميل هو لمة العائلة التي كان يتميز بها، فقد كنا نجتمع كلنا، أشقائي الثمانية وأنا ووالدي ووالدتي، لنجلس معا حول مائدة رمضان التي أقل ما يمكنني القول عنها أنها مغطسة بالبركة. كل شيء كانت تحضّره والدتي (أم أحمد) مع جدتي (أم فضل) لا يشبه موائد اليوم المعلبة والمغلفة بوجبات الديلفري (التوصيل المجاني) التي باتت معظم ربات المنازل اليوم تستخدمها على موائد عائلاتها. البيض كان طازجا تحضره جدتي من مزرعتها الصغيرة التي كانت تربي بها الدجاج، أما الخضار فكانت رائحته لا يمكن مقارنتها بذلك الذي نشتريه اليوم من الدكاكين والمحلات، كان طازجا ونضرا، بحيث ما إن تدخل عتبة المنزل حتى تشتم رائحة طبقي التبولة والفتوش من بعيد بدءا من البقدونس والنعناع البلديين، مرورا بحبات البندورة البعلية والبصل الأخضر المقطوف مباشرة مع باقي أنواع الخضار من حديقة «ستي»، وبينها الرشاد والفجل والخس. كانت هذه الحديقة الواقعة أمام دارتها في منطقة الغبيري تزرعها وتهتم بها وتردد أمامنا أنها ستبيض وجهها في شهر رمضان. كل شيء كان مختلفا في رمضان أيام زمان، إذ كان الجيران والأقارب مع أمي وجدتي يتشاركون في تحضير هذه المائدة البسيطة واللذيذة في الوقت نفسه. الاستعدادات لوجبة الإفطار كانت تتم قبل ساعات قليلة من موعدها، الكل معجوق يقوم بمهمته على أكمل وجه. أختي الكبيرة تعصر الحامض، وأختي الثانية تغلي العدس، ووالدتي تفرم البقدونس، إلخ. هذه المشاهد ما زالت تسكنني وكأنها لوحة زيتية لا تقل روعة عن لوحات أشهر الرسامين في العالم. أما مهمتي أنا فكانت تقضي بالتوجه إلى منزل بائعة الحليب (أم جعفر) الذي كان يقع على طريق المطار ويبعد نحو عشر دقائق عن منزلنا سيرا على الأقدام، فأحمل الوعاء النحاسي الخاص بالحليب. هناك عند «أم جعفر» أقف أنتظرها وهي تحلب البقرة وتناولني الوعاء بعد أن أعطيها أجرتها (ليرة لبنانية). وفي طريق العودة الوعر الممتد بين الأشجار والبساتين كانت تفوح رائحة زهر الليمون والحامض والطيون، وكنت أتوقف قليلا لأسرق شتلات «الحميضة»، وأحيانا حبات فاكهة الأكيدنيا من الحدائق الموزعة هنا وهناك. كما كانت المهمة تقضي مرات كثيرة بالتوجه إلى فرن في منطقة صبرا يملكه أحد الفلسطينيين (أبو إبراهيم الفران) لاصطحب معي الكعك والـ«اليطا» الطازجين لتناولهما عند السحور مع قطعة من الجبن أو مع الزعتر والزيت كوجبتين مميزتين. ولا أنسى موعد السحور، إذ كنا ننهض بنشاط لنصلي ونأكل الفول المدمس ونتحلى بقطع العوامات المغطسة بالقطر والتي تحضرها أمي كل ليلة لنأكلها طازجة فتقرقش ونتمتع بسماع أصوات قرقشتها تحت أسناننا. كل ما يمكن أن نحتاجه في هذا الشهر الكريم كانت تحضره والدتي في المنزل من رب الرمان وماء الورد والكشك ورب البندورة ومربى البوصفير والمشمش وغيرها. لم نكن نأكل أي شيء خارج المنزل، فلا وجود للمطاعم في منطقتنا في تلك الآونة إلا «فلافل صهيون» في ساحة البرج، والتي بالكاد كنا نعرج عليها، إخوتي وأنا، بين وقت وآخر عند السحور. كل هذه المنطقة التي كانت تحيط بمنزلنا من الغبيري وحارة حريك وبرج البراجنة لم تكن تحتوي على أكثر من 80 منزلا، فكانت هادئة وساكنة لا زحمة سير فيها ولا يحزنون. حتى الخبز كنا نشتريه طازجا من فرن «أبو إبراهيم» أو تخبز جدتي «المرقوق» على الصاج برائحته التي يسيل لها اللعاب. واستعدادا للعيد كنت أتوجه وإخواني إلى «الفرن العربي» في مبنى اللعازارية (وسط بيروت) نحمل المعمول وكعك العيد المصنوعين من يدي أمي وجدتي لنخبزهما هناك، ثم نعود أدراجنا، ودائما سيرا على الأقدام، ونحن نحمل «اللكن»، وهو وعاء كبير لا يعرفه جيل اليوم، مصنوع من الألمنيوم على رؤوسنا الصغيرة، ممنين النفس بوصول العيد بسرعة لنتذوق هذه المخبوزات في وقتها. كان من العيب أن يمشي أحدهم والسيجارة بيده، أو أن يشرب المياه، أو أن لا يكون ممارسا فريضة الصوم، فيخجل من نفسه ويختفي من أمامنا. كل شيء كان على البركة وله نكهته، فلا «كنتاكي تشيكن» ولا «برغر كينغ» ولا دهون وشحوم مصنعة نتناولها. كنا نأكل الفاكهة والخضار في مواسمها فقط، فلا خيار في الشتاء ولا برتقال في الصيف. برأيي رمضان أيام زمان انقرض، ويا ليتني أعود إلى تلك الأيام الجميلة التي كانت تحمل التقوى والإيمان في طياته، فحتى طعم فنجان القهوة تغيّر برأيي، فأين نحن من الذي كنا نتناوله بطعم حب الهال والبن الأخضر؟ وأين نحن من برامج تلفزيون الأبيض والأسود التي تقتصر على «أبو ملحم» و«أبو سليم» اللذين يشكلان أفضل سهرة رمضانية لننام عند الثامنة والنصف ونستيقظ على ضرب طبل المسحراتي؟ أعتقد أن رجالات أيام زمان الأوادم رحلوا، وأخذوا بركة تلك الأيام معهم.. ورمضان كريم. * مدير تنفيذي في شركة «روتانا» وصاحب شركة «ريلاكس إن» للإنتاج الفني سابقا

مشاركة :