في عالم الدبلوماسية ينتفي المستحيل من قاموس العلاقات الدولية، ولكنها فلاحة لا يحسن استصلاحها كل أحد، وتأتي زيارة الجبير الخاطفة والمفاجئة إلى بغداد مثالاً، لإحدى الزيارات التي نالت اهتمام المراقبين والمحللين على وجهٍ سواء، دون أن يتمكن الجميع من معرفة حقيقتها وكنهها، وأضفت كاريزما شخصية الجبير الدبلوماسية، طابعاً مميزاً وخصوصياً لهذه الزيارة، حيث يعد هذا الوزير من أكفأ السياسيين العرب الحاليين، رغم قصر تجربته الدبلوماسية، مقارنة بشيوخ السياسة العرب، والذي يهمنا في هذا المقال، النفاد إلى مغزى تلك الزيارة المثيرة للجدل وتوقيتها ونتائجها المتوقعة، فالزيارة في حقيقتها إلى طهران وإن كانت في الظاهر إلى بغداد، وجاءت في ظل تصريحات ترامب النارية ضد طهران والتي أزعجت الملالي وعملاءَهم المرتبط مصيرهم بمصير أسيادهم في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وتلت زيارة روحاني لمسقط والكويت الفاشلة، والتي لم تخرج عن مجرد إطلاق الكلام المعسول، الذي انتهت صلاحيته ولم يعد مقنعاً لأحد في الخليج، فكان من المناسب أن يسمع الملالي رداً على مراوغتهم بواسطة عملائهم في بغداد، الذين يمثلون دمى محنّطة في البازار الإيراني، فهم البوابة الأمامية لطهران، ولا يمكن أن يبرموا أمرا أو يعقدوا اتفاقاً دون موافقة أسيادهم في قم وطهران، وحالهم كقول الشاعر : ويُقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يُستأذنون وهم شهود وليس من المستبعد أن يكون هناك تنسيق سعودي امريكي حول مستقبل العراق بعد داعش، كأحد دوافع الزيارة، حيث أخرج الرئيس الخائب الضعيف (أوباما ) أمريكا من العراق بلا حمص، ويهم المملكة أن تعرف بوصلة الأحداث في ظل تقهقر داعش، فترامب عاقد العزم على ابتزاز الخليج وإيران معاً بإشعال نار التوتر بينهما بغباء ورعونة وحمق من الملالي، وقد ورثت إدارته الخسائر الفادحة عسكرياً ومالياً واستراتيجياً من الإدارة السابقة، ولكن ليس من المناسب استعجال الأمور قبل القضاء على داعش، حيث إنها جادة هذه المرة في محاربة هذا التنظيم الإرهابي ، حيث تشارك طائرات B 52 قاذفة القنابل الاستراتيجية الضخمة في المعارك في الموصل ، بعد أن انتهت صلاحية دور هذا التنظيم الإرهابي في تدمير المنطقة وخلط الأوراق، ولا يمكن قبول تجيير تلك الانتصارات لصالح طهران، وهو ما ينبغي أن تتعامل معه بجدية حكومة العبادي، بعد طرد داعش من الموصل، ولابد لها والحالة هذه، من بديل يحتضنها بعد تقليم أظافر طهران، ولعل دول الخليج مرشحة لهذا الدور من الإدارة الأمريكية الجديدة، ويساور المملكة ودوّل الخليج القلق المتزايد من الجيش الإيراني في العراق، والمتمثل فيما يسمى بالحشد الشعبي، وهي ميلشيات صفوية متطرفة تؤمن بولاية الفقيه، وتدين بالولاء لطهران ويقودها ضباط إيرانيون، والذي أرادت منه طهران التحرش بدول الخليج والضغط عليها وتخويفها وابتزازها، من خلال إعادة تجربة حزبها في لبنان، رغم وجود الفوارق الجوهرية بين جنوب لبنان المعقد في تضاريسه وأحراشه وديمغرافيته، وجنوب العراق حيث حقول النفط العراقية أهداف مكشوفة مشروعة، في حالة تهوك الميلشيات الصفوية في اللعب بالنار على حدود المملكة والكويت، لذلك ناقش الجبير هذا الملف دون مواربة، وحاولت حكومة العبادي إظهار الندية مع الضيف ، حين طالب الوزير الجعفري المطالبة بفتح منفذ الجميمة، ولقد مهدت هذه الزيارة لمستقبل جديد للعراق مع جيرانه ، حين تترنح دولة الملالي وتفقد توازنها وتحافظ على نظامها من الانهيار، فهناك مؤشرات على اختلال في موازين القوى تلوح في الأفق منذ بداية ولاية ترامب ،تجسد زيارة جبير بعض خيوطها الأولية، وكانت محل حفاوة في الابتداء من قبل دولة الملالي،” المتشوقة والمتعطشة لمعرفة نوايا السعوديين، خلافاً لما أُشيع في وسائل الإعلام، لكنها مثيرة للقلق في نهايتها حين نُقلت تفاصيلها بقضها وقضيضها بالصوت والصورة إلى طهران ، وهو ما تعمد الجبير تقديمه رسائلا غير مشفرة إلى مضيفيه، على نحو إياك أعني واسمعي يا جارة. هناك مرحلة جديدة تدشنها الدبلوماسية السعودية لاحتواء العراق بأمراضه وأوبئته ، ستلقى معارضة شديدة من إيران ، وعرقلة من المجلس الصفوي الحاكم بكل رموزه وأحزابه وميليشياته، ولكن حين تقلب أمريكا ظهر المجن للملالي في إيران، سيدرك العملاء انهم كالأيتام على موائد اللئام ، فإيران لا يهمها التشيع ولا الشيعة ، بقدر ما هو توظيف المذهب الشيعي بجماهيره الإمعية العمياء، بقيادة العمائم لتحقيق مصالحها، ومتى هبت المصالح خلاف أجندتها، ضحت بهم جميعاً، كما هو الحال في تضامنها مع الأرمن ونكرانها للشيعة في أذربيجان، فنجاح الزيارة مرهون بعزم إدارة ترامب على استرداد ما فقدته من مصالح في العراق، واسترجاع ما حازته روسيا من نفوذ في المنطقة على حسابها بسبب تفريط إدارة أوباما، وفي قابل ما بعد داعش، تستبين معالم استراتيجية إدارة ترامب نحو إيران والمنطقة.
مشاركة :