حرق أردوغان كافة قوارب العودة، سواء مع الاتحاد الأوروبي في ظل الأزمة الحادة مع هولندا وألمانيا والنمسا، أو الجوار الإقليمي خاصة مع سوريا والعراق وأرمينيا.العرب أمين بن مسعود [نُشر في 2017/03/16، العدد: 10573، ص(8)] كما يحصل الانتقال الديمقراطي في الدول الساعية إلى الخروج من ربقة الدكتاتورية نحو الديمقراطية، يحصل في المقابل الانتقال إلى الاستبداد في الدول شبه الديمقراطية التي تعجز عن حماية مكتسباتها السياسية والحقوقية والقضائية، أو تلك التي تقبل في سياق من السياقات بالتحوّل من الحكم التشاركي البرلماني إلى الحكم الفردي. حوّلت النازية ألمانيا في ثلاثينات القرن الماضي من دولة ذات تعددية سياسية وثقافية، إلى دولة استبداد وظلم وطغيان محلي وإقليمي ودولي. الشاهد هنا أن الديمقراطية التي لم تحم الليبرالية الفردية والجماعية، والديمقراطية العارية بمعناها الانتخابي التي لم تحتكم إلى مؤسسات الفصل بين السلطات، أفضت في المحصلة إلى ضرب “المواطنة الثقافية وثقافة المواطنة” دون أي تفصيل أو مفاضلة. ولئن كانت الليبرالية بمعناها الحقوقي والحرياتي هي أساس وشرط تحقق الفعل الديمقراطي الانتخابي، فإنّ الثانية ليست بالضرورة شرط تنزّل الحريات الفردية والجماعية والجمعياتية. فكم من نظام شمولي جاء بإرادة الشعب دون أن يتفطن الأخير إلى أنّ الاختيار الحرّ دون مأسسة الحق في التغيير ودون تقنين لأدوات المساءلة والرقابة على الفاعل التنفيذي قد يذهب بالديمقراطية كحق للتغيير والليبرالية السياسية كأساس للحصانة الاجتماعية حيال تجاوزات الفاعل الرسمي. هكذا انقلب النظام الإيراني على الثورة الشعبية في 1979 بعد تصفية نخبة التغيير السياسي من يساريين وقوميين وطنيين إيرانيين، وهكذا يحصل أيضا في أكثر من عاصمة عربية، حيث الانقلاب العميق على الديمقراطية الرخوة وحيث التحول من الانتقال نحو الديمقراطية الوليدة إلى الانتقال نحو الاستبداد المؤسّس. وهكذا أيضا، تتقدّم تركيا بخطوات واثقة من فضاء برلمانية الحكم إلى فردانية السلطة، معلنة عن تطويع للدولة التركية لفائدة الشخص ضمن مقولة شخصنة الدولة عوضا عن تأصيل دولة الوطن والمواطنة. عبثا حاول رجب طيب أردوغان إيجاد الحجج القوية والمنطقية للدفاع عن مسار برهنة معوج قوامه أنّ النظام الرئاسي لدولة حكمها برلماني من شأنه أن يساهم في نشر مناخ الديمقراطية والحريات في البلاد. يدرك الأتراك أنّ النظام الرئاسي في عهد أردوغان يعني “أردغنة” تركيا واستبدال دكتاتورية العسكر والقضاء الأتاتوركي بسلطة سليل جديد لعائلة آل عثمان. لم يخف عبدالله غول خوفه من المسار الرئاسي الجديد، ولم يتردّد أحمد داوود أوغلو عقل أردوغان الدبلوماسي المعزول في إبداء خشيته من المصير السياسي البديل، لا فقط لأنّ السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وإنما أيضا لأن تركيا ستجد نفسها في المحصلة نموذجا هجينا من روسيا فلاديمير بوتين أكثر منها عينة قريبة من فرنسا الديغولية أو أميركا جورج واشنطن. ولئن كانت إزاحة الملك أولا ومن ثمة سحب البساط من الكنيسة ومن رجالات الدين ثانيا قبل إقرار العلمانية في 1905 فرضا على النخبة الفرنسية اجتباء النظام الرئاسي على البرلماني، فإنّ فيدرالية نظام الحكم في أميركا تجعلنا حيال حكم برلماني محلي بإشراف رئاسي، وهو ما يعني أنّ تقاطعات السياقات التاريخية والسياسية والجغرافية فرضت النظام الرئاسي. في حين أنّ الارتسامات الكبرى للحالة التركية تشير إلى مناخ سياسي تحضر فيه الرقابة والسجون وتكميم الأفواه وملاحقة الأكاديميين والقضاة والمحامين والسياسيين المعارضين لأردوغان، وينحسر فيه تدريجيا منسوب الحريات العامة والخاصة أيضا. يدرك الديمقراطيون الأتراك أنّ النظام البرلماني مثّل الضمانة السياسية الأهمّ للأقليات السياسية والثقافية والإثنية ولتمركز الهوامش قبالة المركز، وأنّ الإسلاميين بذاتهم استغلوا ووظفوا هذا النموذج في الحكم لدخول مراكز اتخاذ القرار في أنقرة زمن الملاحقات والعصا الغليظة. كما يتيقنون أنّ أردوغان يريد أن يوصد البوابة التي دخل منها في العام 2000، دفعا لأيّ استحضار جديد لتجربة “أردوغان غول” ضدّ نجم الدين أربكان والتي مثلت ولادة حزب العدالة والتنمية من رحم حزب السعادة. حرق أردوغان كافة قوارب العودة، سواء مع الاتحاد الأوروبي في ظلّ الأزمة الحادة مع هولندا وألمانيا والنمسا، أو الجوار الإقليمي خاصة مع سوريا والعراق وأرمينيا، أو المطبخ الداخلي حيث ينفض عليه القريب الأيديولوجي قبل البعيد الديماغوجي. قد ينجح أردوغان في استحقاق تحويل تركيا من برلمانية إلى رئاسية، ولكنه سيكون رئيسا على دولة نصفها مملكة مؤيدة ونصفها مهلكة منتفضة، لن يهدأ أوار غضبها قبل الانقلاب على الانقلاب. كاتب ومحلل سياسي تونسيأمين بن مسعود
مشاركة :