شفت أنا الشاعر وهو يشنق بتهمة قافيةشفت رجله تتدلى فـ الهواءلحظتها...شفت الأرض تمشي حافيةفمسألة شنق الشاعر بسبب اتهامه بكتابة الشعر، تدل على أن الشعر لديه ما هو إلا قضية تجبر صاحبها على بذل التضحية من أجل تحقيق هذا الغرض، لهذا يصور لنا مشهد الإعدام والجسم المتدلي في الهواء والأرجل المتدلية بسبب هذا الشنق ، مما جعل الأماكن والأراضي تعلن احتجاجها ورفضها على هذا الفعل عندما أصبحت « الأرض تمشي حافية « وذلك أن الشعر مرتبط لديه بالهم والإحساس بالحزن والمأساة لا عملاً ترفيهيّاً يزجي من خلاله الشاعر أوقات فراغه:وتسأليني ليه أنا شعري حزين ؟!انتي أعلم... أعلم... أعلمباللي فيه!!!هذا التعامل المشوب بالحزن مع الشعر، جعله يضفي هذا الموقف على الأنثى التي تسأله عن سبب هذا الحزن الكامن في شعره ، حيث أعاد إليها السؤال لتبحث هي بدورها عن الإجابة التي يعتقد الشاعر أنها أعلم بها منه، أو تشاركه العلم بها في أبسط الظروف.ولأنه يريد الحصول على حريته ، أو كما قال هذا التمني صراحة في غير هذا الموضع «أبي حريتي» بكل وضوح من أجل الانعتاق من رتابة الحياة وجمود الشعور باللحظة وذلك من أجل كتابة الشعر بالدرجة الأولى باعتبار أن القصيدة هي الرئة التي يتنفس عن طريقها الوعي والكتابة ولهذا يشعر بأنه لا الشعر ولا الصمت كذلك قادران على تحقيق هذا المراد:لأن الصمت عاجز يقتلكوالشعر عاجز ياخذ بثاركففهد الشاعر غير قادر على الصمت ، لأن الصمت ضد الكلام ، والشعر هو كلام مهما كانت التعاريف المتشعبة ذات الصلة المرتبطة بطبيعة الشعر، إلا أن هذا الكلام المسكون بالشعر غير قادر على تحقيق مراده كذلك، وهذا ما نراه في مكان آخر لكن بصيغة أخرى، إلا أن المفهوم واحد والمدلول واحد لا يمكن أن يتغير:ما دريت إن الكتابةثعلب.. ينهش لحم جشةوموت وسط موت موتوالورق تابوتبعيدًا عن كون الورق يعادل الصمت أو أن الكتابة تعادل الشعر، أو هذا على سبيل تقريب الفكرة لا أكثر تتضح لنا رؤية الشاعر المتعلقة بالشعر والإحساس المترتب عليه أثناء كتابته القصيدة ، فهو يجد عناء عند الكلام ومشقة حين الصمت ، وهو هنا واقع بين فكي كماشة، وهذا ما عبر عنه في مكان ثالث ، لكن بطريقة لا تخلو من سطحية في التناول:أرمي جثتي فوق السرير / اليابسلا شاعرولا معنىولا قرطاسغير أنه يلتقي لديه الشاعر بالإنسان، هذا الإنسان الحامل لرسالة الحياة ، يلتقي بالشاعر الحامل لرسالة الشعر ، إذ تتوحد الرؤيةهو الإنسان من أقصى حدود الدمعإلى أقصى حدود الدمع لعبة في يد اللحظةوضاع الشعر كل الشعرفي معنى : عجوز / ومفردة نبضةوالشاعريغازل بالرذاذ الطيب الدافي صباحهوالمسا: يصفع جبين الشعر بالكبريت والفضةفي هذا المقطع تمازج ما بين الإنسان كحالة منعزلة وبين الإنسان من حيث كونه شاعرًا ، وهذا ما سنراه في المبحث التالي حينما يكون الحديث منصبًّا على الإنسان كجانب فني من جوانب الشعر الحديث.الإنسان المتداخل مع الدمع والحزن ، هو ذاته ذلك الإنسان المنشئ للقصيدة ، باعتبار أن الدمع تعبير خارجي عن الحزن والشعر صوت داخلي للحزن ، غير أن هذا الموقف يتواصل مع الشعراء ، ولا يقف عند شاعر بعينه حيث نرى هذا المشهد يتواصل مع فهد دوحان الذي مزج الحزن بالشعر والنهار بالسكوت والظلام بالمطر والطريق بالموت ، وذلك في تداخل يجعل من الشاعر محور هذه العلاقات المتشابكة:أنا الشاعر ..صراخي في الظلام .. إن ما كذب يشبه ..ظلامي في النهار..ويشبه سكوتيطريقي للمطر..هو الوحيد اللي بقى..ما يشبهه موتيلقد مزج الشاعر هنا من خلال مفردة «الشاعر» المسبوقة بكلمة «أنا» كل ما يمت للشعر أو على أدق تعبير أغلب ما يمت للشعر بهذا المقطع ، بدءًا بالكذب كفهم عربي تقليدي نابع من مقولة قدامة بن جعفر: «أعذب الشعر أكذبه» إلى آخر هذا المقطع ، وهي كلمة الموت، حينما اعتبر أدغار ألان بو بأن موت امرأة جميلة ، هو أجمل مشروع لكتابة قصيدة.فهد دوحان ربط الشعر بالواقع ، وأراد أن يعكس أثر هذا الواقع على الإنسان المنشئ للشعر، ولم يجد له بوابة للدخول في هذا المجال إلا الحزن ، وهذا الموقف رغم أنه موقف عام سار عليه الشعراء من قبله أو من بعده ، لا سيما الشعراء الذين شملهم هذا الكتاب المهتم بطرق هذه الجوانب الفنية لهذا يشخص الواقع أمامنا في نصوصه ، ولو بأشكال متعددة ، لكنها أشكال تصب في مصب واحد اسمه الشعر لأنه الشاعر الذي يتحكم به الحزن:أحلامنا أوراق...والواقع حبر!والشاعر الإنسان يحرث بالقلمشعر وصبرهو ليس وحيدًا في هذا المجال ، إنه حال الشعراء أصحاب هذا النوع من الشعر ، إذ صار الحزن ملازماً لقصائدهم ، ولعل فهد دوحان لمس السر في هذه المشكلة «أحلامنا أوراق.. والواقع حبر « فأحلام هؤلاء الشعراء إما أنها هشة هشاشة الورق أو نقية بيضاء كنقاوتها ، والواقع هو المداد الذي يرسم لهم هذه الحياة، ويمنحهم الشكل الذي يحرث بالقلم .. شعر وصبر» إذ ربط الشعر بالصبر ومنح القلم خاصية الحرث في صحراء الورق الممتد أمامه وهو هنا يمزج بين الشعر والصبر كمُوجّه آخر لمعادلة الحرث والكتابة ، باعتبار أن الحرث بحاجة إلى صبر والشعر بحاجة إلى صبر ، أي إنه لا يأتي بسهولة ، ولا يمكن استحضاره بيسر.
مشاركة :