لا نبالغ في اعتبار أندريا زانزوتو (1921 - 2011) الشاعر الأكثر فتنة، وأيضاً الأكثر صعوبة بين الشعراء الإيطاليين الحداثويين. لكننا نخطئ حين ننظر إليه كشاعر التفكيك والتجريب اللغوي فحسب ونحاول بذلك تفسير صعوبة قراءته. فمنذ ديوانه الأول، «خلف المشهد» (1951)، الذي حاور فيه وجوه التيار الهرمسي (لوزي، بيغونجياري وسيريني في بداياته)، بحث زانزوتو عن «مرسى» لترسيخ اللغة، عن ميثاق جديد بين الشعر والعالم، بعد تواري التيار الأورفي. وبالتالي، فهو لم يكن شاعراً تجريبياً فحسب، بل خصوصاً شاعراً عميقاً زعزعت صراحته ورقّته اللغة بطريقة أكثر راديكالية من معظم الشعارات الطلائعية. من هنا قرار دار «موريس نادو» الباريسية متابعة نشر الترجمة الفرنسية لأعمال هذا العملاق التي بدأها مؤسّس هذه الدار العريقة، وآخرها كتاب يتضمّن ديوانَيّ «منادى» (1957) و»انطباعات مفرطة» (2001). قرار يرتكز على الرهان بأن صراحة الشاعر وتلك البراءة في النظرة إلى العالم التي حافظ عليها في بحثه العسير، ستعرفان سبيلاً إلى القارئ الفرانكفوني الحسّاس بما يكفي لتجاوز صعوبات شعره. رهان نبيل، ولكن لا مجازفة فيه، لأن زانزوتو عرف كيف يعود، من كارثة عالمٍ حديث ينبذ الشعر، إلى تلك اللغة التي تسبق المفهوم، إلى الثغثغة الطفولية وإلى كل ما استطاع البقاء على قيد الحياة داخل الثقافة الغربية، بعد نفي الجمال منها. وداخل ذلك التوتر بين هذا الجمال الذي أضحى ممنوعاً، وفرّغه الفكر الحديث وتشنّجات التاريخ من معناه، وبين الوعود الهشّة بجمال أكثر تواضعاً ناتج من استخدام آخر للغة، عرف أيضاً كيف يؤسّس لعملٍ شعري قادر على إقناعنا بضرورة سكن هذا العالم شعرياً. وفعلاً، جسّد زانزوتو ثقةً مطلقة بالشعر وتكلّم دوماً باسمه، آخذاً على عاتقه جميع معانيه ومقتضياته وتعقيداته. وفي هذا السياق، تجتمع داخل نصّه وتتناغم جميع أصوات عصره الإيطالية الكبرى التي رافقها وصادقها وأقرّت بنبوغه، من أونغاريتي إلى مونتالي، ومن بازوليني إلى فورتيني، ومن لوزي إلى رابوني، ورأى جميع النقّاد فيه، على اختلاف ميولهم، العبقري الذي تمكّن من إتمام أرفع التقاليد الشعرية الإيطالية ومن حَمْلِ كمٍّ من الإرث: النشيد الصافي والقصيدة ـ الغرض، البساطة والتجريب، التقليد والمسعى الطلائعي. باختصار، زانزوتو هو شاعرُ «عالمٍ صغير في ظاهره» وأيضاً شاعر التطلّعات الأكثر شمولية. شاعر الجمال والمناظر الطبيعية، وأيضاً شاعر القدَر وتاريخ البشرية. ومع أنه أيضاً ناثر مذهل وناقد قل نظيره، لكن كل شيء فيه يقود إلى القصيدة. في «شغف وأيديولوجيا»، اعتبر بازوليني أن خصوصية صديقه تكمن في قدرته على «إملاء حياته كرجل هامشي معزول عبر تحويل نفسه انطلاقاً من المشهد (الذي يشغله)، وعبر تحويل المشهد انطلاقاً من نفسه، داخل لغة أضحت جسداً، معادلاً مادّياً صافياً». وتطرّق زانزوتو إلى أسلوبه الخاص في «أبعد من الحرارة الحارقة»، الذي جمع فيه نصوصه النثرية الشفّافة التي تختلف كلياً عن نزوات شعره، وإن شاركتها مصدر الوحي ذاته، فوصفه بـ «واقع منسوج لكن مكثَّف، فارغ المركز، وذي صبغة عدمية محدَّدة إلى ما لا نهاية». لكن هذين التعريفين، على أهميتهما، لا يمنحاننا فكرة عمّا يميّز أسلوبه، أي التلاعبات اللفظية والتوريات والسعي إلى تجسيم القصائد ومدّها أحياناً برسوم غرافيتية، والاستخدام المنحرف لعبارات علمية، وتفكيك النحو الذي يدعم ويرافق وصفاً مذهلاً لحالات ذهنية تقع على حدود الأذهان، أو لأحلام يقظة داخل مشاهد قمرية أو ريفية. مميّزات نجدها كلها سواء في «منادى» أو في «انطباعات مفرطة»، علماً أن المسافة الزمنية التي تفصل هذين الديوانين كبيرة جداً. فبينما يتضمّن الأول قصائد كتبها الشاعر بين عامي 1949 و1956، يذهب الديوان الآخر بنا إلى قصائد المرحلة الأخيرة من مساره. ومع ذلك، ثمة رابط يجمع هذين الديوانين، عدا عن المميزات المذكورة، ونقصد تلك الصورة المؤسِّسة والجوهرية للمشهد الطبيعي التي تشكّل نقطة رسو وجودية لشعره. وفعلاً، تنخرط أعمال زانزوتو في تلك النقطة التي تشكّل عالمه الواقعي والداخلي ، أي مشهد مقاطعة فينيتو الإيطالية بمستنقعاتها المهددة بالتواري وأنهارها التي تفيض أو تشحّ بسبب زحف الحداثة، وقُراها التي تعود إلى القرون الوسطى والمهددة بالاختناق. فضاء طبيعي وذهني يتجذّر في ذلك الاجتياح المدمِّر الذي سعى الشاعر إلى فضحه منذ ديوان «منادى»، ضمن اندفاع صورٍ مدهشة بنحوها الخاص الذي يذوّب داخل مصهر كيميائي واحد جميع أشكال اللغة، مضمّناً قصائده ألفاظاً جديدة وكلمات وترنيمات طفولية ومفردات محلية وعلمية، وأخرى مبتكَرة تقوم على الجناس والمحاكاة الصوتية، ومازجاً فيها القديم والجديد، الحداثة المدمِّرة وشعراء التقليد الشعري الإيطالي الكبير، من فيرجيل إلى ليوباردي، مروراً بدانتي وبيترارك وفوسكولو. وبالتالي، يتعذّى هذان الديوانان من جميع أنواع الصور والعناصر التي تكيّف ذهن الشاعر: النهر والماء والمنظر الرعويّ والجبل والغابة والشجرة والصيف وأقوال عدد لا يحصى من الشعراء. لكن ما يميّز «منادى» هو تشكيله اللبنة الأولى في بحث زانزوتو عن قولٍ أصيل. فبين استحضار وتحريض، يرتفع داخل هذا العمل صوتٌ واحد يسعى في شكلٍ مؤلم إلى التحاور مع آخر هو عبارة عن أنا أخرى، لكنه لا يسمع سوى صداه. صوتٌ يبلغ أصالةً في الكلام عبر ابتكاره لغة خاصة، «مصطنعة»، ومساءلته الثابتة لسلطة الكلمات، مبيّناً بطلان اللغات عبر تصويرها ككائنات تاريخية خاضعة للتلف. أما «انطباعات مفرطة» فيُشكّل ديوان زانزوتو ما قبل الأخير، وبالتالي تطويراً لشعرية وموضوعات سبق تحديدها، علماً أن حواره مع المشهد الطبيعي ينحسر أمام الانبثاق العنيف لطبيعةٍ جديدة لا مكان فيها سوى للإنسان، ويصبح هذا الأخير، أو بالأحرى تقنياته، للمرة الأولى قوةً جيولوجية حاسمة. وفي هذا السياق، يسعى الشاعر إلى فكّ خيوط زمننا بنبرة ساخرة، كاشفاً كيف أن التقدّم والتطوّر لم يعودا يتطابقان بالضرورة، ومصوّراً بقوة تعبيرية نادرة دمار الطبيعة على يد الإنسان، والتحوّل السلبي الراديكالي لبيئتنا ولمفهوم الطبيعة بالذات، وبالنتيجة ابتلاع مستقبلنا ليس فقط لماضينا، بل لحاضرنا وعالمنا أيضاً. من هنا دعوته إيانا إلى ضرورة تبنّي وضعيةٍ حياتية جديدة قبل فوات الأوان. وضعية تلعب الذاكرة فيها دوراً رئيسياً. يبقى أن نشير إلى الجهد المذهل الذي بذله الشاعر فيليب دي مييو لنقل قصائد هذين الديوانين إلى الفرنسية. فمثل زانزوتو الذي «يحفر في اللغة مثل خُلْدٍ في التربة»، وضع دي مييو كل طاقته ومهاراته الشعرية والتقنية من أجل حفر لهذه القصائد مكاناً يليق بها في لغة رامبو، وإيصال ما يمكن إيصاله بواسطة الترجمة من عبقرية صاحبها. قصائد من ديوان "منادى" يا نهراً عند الفجر، يا ماءً معتماً خفيفاً وغير خصب، لا تسلبني النظر ولا الأشياء التي أخافها ومن أجلها أعيش ماء رخو ماء غير مكتمل تفوح منك رائحة اليرقات وأنت تعبر تفوح منك رائحة النعناع وها أنا أهملك ماءٌ يراعةٌ قلِقة عند قدمَيّ تتحرر من مدرّجات من زهور محبوبة بإفراط تنحني وتطير أبعد من تلّ مونتيللو ومن الوجه العزيز الفظّ الذي من أجله أيأس من الربيع. *** ١ـ منذ الالتباس اللزِج منذ الحرارة المقيتة دائماً وعبثاً يلوّح، دائماً يعود ابنكِ، يا أمي، على طرق ملتوية، ملتفّاً إلى ما لا نهاية. في المنزل تضيئين غُرَفاً معطَّرة، التل فقّاعات زيزان صغيرة والمخدّة غير طريّة، الكأس متصدّعة ماءٌ وتبنٌ في الفناء الخلفي. إليكِ أعود دائماً، إليكِ أنتِ التي كنتِ اليوم طفلةً صغيرة: لكن قلبي الغافل لم يقدّم لك أي هبة. لا شيء سوى النور المزدحم والزيز الصغير على شجرة التفاح في الفناء الخلفي. لا شيء مشعّاً أو محبَّباً لك على الطاولة. لكن ذهني انخرع وترينني لا أتكلم لا أتكلم مع أحد. سريعاً وأصمّ أنزلُ عن القمح المكدّس والمحروق، أبتعدُ عن حلقات غامضة وأُحضِر حرارةً شديدة وعينين مغلقتين. هل أتخلّى عن آلام البارحة من أجل عذاب هذا اليوم الذي يتحدث عنك وأردتِ جعله سائغاً لي؟ «استيقظ يا صغيري، الزيز غنّى، أنا وُلدتُ، إنه تموز» كنتِ تفتحين النافذة، فأتنفّس كل ألمِ فجرِ تموز. ٢ـ إنه تموز، يتبهرج الزيز ببتلاتٍ لا تُحصى؛ لقد وُلدْتِ. وُلِدْتِ آنذاك والشمس عليكِ كانت من كتّانٍ مطرَّز وصراخ؛ لكن ذلك لم يكن يُثير حماستكِ، يا أمي. كنتِ طفلةً صغيرة تبحث عن الحليب في الصيف الكبير. قلتِ لي إنه تموز كم من قصص حب قلقة لزيزان كم من ندى عطِش في كل مكان في السماء، في كل سماء. أمي، أين يعمي الصيف بصيرتي، وأين أنا؟ طريقي تُفرَش بالعشب وتيأس. بين شقوق غيومٍ سوداء تضيّق على حرّيتي أفكّر ولا أرى نفسي (...) .
مشاركة :