فيصل جلولتشهد فرنسا، للمرة الأولى منذ زمن طويل، انتخابات رئاسية غريبة الأطوار، لجهة المرشحين، والبرامج، ومزاج الرأي العام، فضلاً عن ضياع مؤسسات استطلاع الرأي، التي تعودت أن ترسم صورة الرئيس المقبل قبل الانتخابات بوقت طويل.نبدأ بإخفاق مستطلعي الرأي الذين تهبط أسهمهم في كل مكان تقريباً، في أمريكا حيث فاز ترامب وفشلت نجمة المستطلعين هيلاري كلينتون، وفي بريطانيا حيث فاز خيار «البريكسيت»، وفي فرنسا مرتين على الأقل، حين انتخب فرانسوا فيون مرشح اليمين الديغولي في تمهيديات تياره، بما يخالف توقعات المستطلعين التي كانت تؤكد فوز الآن جوبيه، ليس في التمهيديات فقط، وإنما في رئاسة الجمهورية أيضاً. ووقعت المفاجأة نفسها في تمهيديات اليسار الاشتراكي عبر اختيار بنوا هامون على الضد من التوقعات باختيار رئيس الوزراء السابق ايمانيول فالس. وتغامر اليوم مؤسسات الاستطلاع بالحديث عن فوز ايمانيول ماكرون مرشح الوسطين اليساري واليميني، والجميع هنا يأمل بأن تصدق هذه التوقعات لأن فشلها يعني فوز مارين لوبن زعيمة اليمين المتطرف. أما لجهة المرشحين فيلاحظ أن الحصيلة استقرت على 11 مرشحاً، يتنافس 5 منهم فقط بطريقة جدية لاجتياز الدورة الأولى، في حين تدور نسب الباقين بين 1 و3 في المئة من الأصوات. وفي قائمة ال 5 الكبار تتصدر مارين لوبن، ويليها ايمانويل ماكرون، ثم فرانسوا فيون، وبنوا هامون، وجان لوك ميلونشون. وإذا اعتمدنا تقديرات المستطلعين فان نتائج الدورة الأولى ستكرس لوبن في الطليعة، يليها ماكرون، وبما أن التقاليد السياسية الفرنسية تقتضي تحالف اليمين واليسار لقطع الطريق على اليمين المتطرف، فمن المتوقع أن يفوز ماكرون على لوبن في الدورة الثانية بفارق كبير في الأصوات. وهذا دائماً وفق السيناريو المبسط والمثالي الذي يشبه السيرورة الأمريكية قبل مفاجأة ترامب. فهل نشهد مفاجأة فرنسية؟ الجواب في هذه الحالة لا يمكن إلا أن يكون افتراضياً للأسباب التالية: أولاً: لأن اليسار الفرنسي يتوزع على 3 مرشحين كبار هم ماكرون الذي تنقسم الحكومة حوله وتؤيده أقلية في الحزب الاشتراكي، وبنوا هامون مرشح الحزب الرسمي الذي لا يتمتع بإجماع في الحزب بسبب ميله إلى الابتعاد عن نتائج ولاية فرانسوا هولاند السلبية، وسعيه لجذب أنصار البيئة والشيوعيين والأوساط العمالية، في حين يجمع ميلونشون أصوات اليسار الراديكالي وبعض الخضر، والذين أصيبوا بالخيبة تلو الخيبة من سياسة الرئيس هولاند. إن تقارب الشعارات التي يدافع عنها الطرفان ستؤدي بطبيعة الحال إلى تفتيت أصوات اليسار وتوزعها، وبالتالي الحؤول دون وصول أي من المرشحين إلى الدورة الثانية. وإذا ما اعتمدنا الحكمة العربية التي تقول إن مصائب قوم عند قوم فوائد، فإن تفتت الأصوات اليسارية بين هامون وميلونشون سيخدم بالضرورة ماكرون الذي يجرؤ على القول إنه مرشح اليسار الذي لا يناهض الليبرالية، بل هو يساري ليبرالي، كما يصف نفسه. ثانياً: يحتل مرشح اليمين الديغولي فرانسوا فيون موقعاً خاصاً، فهو يعاني متاعب جمة مع القضاء، ويصر على ترشيح نفسه، تدعمه فئة مهمة من الديغوليين التي يبدو أنها لا تعبأ للإجراءات القضائية التي يتعرض لها من يتقدم للفوز برئاسة الجمهورية، التي تلحظ الإشراف على القضاء، وعلى الفصل بين السلطات. إن فوز فيون في الدورة الأولى من الانتخابات يتطلب معجزة من جهة، وخروجاً غير مسبوق من جهة أخرى عن التقاليد السياسية الفرنسية، لذا من المرجح أن يدفع الرجل ثمناً باهظا لتعنته، وأن يفشل في اجتياز عتبة الدورة الأولى.ثالثاً: يفيد مما سبق أن سيناريو لوبن - ماكرون هو الأوفر حظاً في ضوء المعطيات الراهنة في الدورتين الأولى والثانية، وبالتالي فإن فرص ماكرون للوصول إلى قصر الإليزيه اكبر من فرص زميلته. لكن هنا أيضاً يبدو من الصعب التأكد سلفاً من تدفق أصوات اليمين واليسار نحو هذا المرشح الذي سيرتدي ثوباً خلاصياً، بوصفه منقذ فرنسا من التطرف اليميني. ذلك أن هذا الثوب يفيض عن مقاييسه وصفاته وتجربته، فهو لم يبلغ الأربعين بعد، وقد تزوج معلمته في الثانوية التي تكبره ب15 سنة، وتقتصر تجربته الوزارية على سنتين فقط، فضلاً عن كونه غير منتخب من قبل من أية هيئة شعبية. يضاف إلى ذلك كله انتشار معلومات غير مؤكدة عن تورطه في فضائح ضريبية، فهل تفقده هذه العوامل صفة المنقذ، وبالتالي تدفع الناخبين إلى المغامرة باختيار لوبن للرئاسة؟ هذا السؤال سيظل مفتوحاً حتى منتصف ليل السابع من مايو/أيار موعد الاقتراع للدورة الثانية. رابعاً: إذا كانت الثقة الشعبية بماكرون غير مؤكدة، فهذا يعني كما أشرنا من قبل، أن الرأي العام الفرنسي قد يغامر بالسير على خطى الرأي العام الأمريكي، وبالتالي اختيار لوبن لرئاسة الجمهورية. وإن فعل فإن السيدة المذكورة ستجعل من الفرنسيين يندمون على خيارهم في وقت قصير، لأنها ستنسحب من أوروبا، وستغلق حدود بلادها وستنتهج سياسة تفضيلية في الخدمات تصب في مصلحة الفرنسيين من أصول أوروبية، وإهمال غيرهم، وبالتالي افتعال صراعات قد تؤدي إلى العنف والخراب. لا تنطوي الانتخابات الرئاسية الفرنسية على حلول نموذجية للمشكلات المطروحة في فرنسا على كل صعيد فهي غريبة الأطوار بمرشحيها، ورهاناتها. baridchama@gmail.com
مشاركة :