ماذا لو اعتبرنا الكميّات الهائلة للمياه المستخدمة الناتجة عن النشاطات المنزليّة والزراعيّة والصناعيّة، والتي تلقى في البيئة يوميّاً، أحد الموارد الثمينة عوضاً عن النظر إليها كمشكلة مكلفة؟ هذه هي النقلة النوعيّة التي يدعو إليها تقرير الأمم المتحدة عن تنمية المياه في العالم والمعنون "المياه المستخدمة: مورد غير مستغلّ" والذي سيطلق في ديربان بمناسبة اليوم العالمي للمياه. وجدير بالذكر أنّ تقرير الأمم المتحدة عن تنمية المياه هو تقرير للجنة الأمم المتحدة المعنيّة بالموارد المائيّة تم إعداده بالتنسيق مع برنامج اليونسكو العالمي لتقييم الموارد المائية، حيث يبيّن التقرير أنّه يمكن لمياه الصرف الصحي، بعد معالجتها، أن تثبت فعاليتها في تلبية الطلب المتزايد على المياه العذبة والمواد الأوليّة الأخرى. ووفقاً لرئيس لجنة الأمم المتحدة المعنيّة بالموارد المائية ومدير عام منظمة العمل الدوليّة غاي رايدر: "تعدّ المياه المستخدمة أحد الموارد الهامة نظراً إلى أنّ مقدار المياه العذبة حول العالم محدود في حين أنّ الطلب عليها متزايد". "ويمكن للجميع المساهمة في بلوغ الهدف الإنمائي المعني بتقليل كميّة مياه الصرف الصحي غير المعالجة من جهة، وزيادة معدّل إعادة استخدام المياه الصالحة للشرب بحلول عام 2030. ويترتّب هذا الأمر على الإدارة وإعادة التكرير الحريصتين للمياه المتدفقة في المنازل والمصانع والمزارع والمدن. فدعونا جميعاً نقلّل من الفضلات ونزيد من معدّل معالجة مياه الصرف الصحي من أجل تلبية الحاجات المترتّبة على تزايد عدد السكان وهشاشة النظم البيئيّة." وبدورها تقول المديرة العامة لليونسكو، إيرينا بوكوفا، في تصديرها للتقرير: "يظهر تقرير تنمية المياه في العالم لعام 2017 أنّ الإدارة الجيّدة للمياه المستخدمة تعنى بتقليل التلوّث في المصدر وبإزالة الملوّثات من مجاري مياه الصرف الصحي وإعادة استخدام المياه المعالجة واستخراج المواد الثانويّة المفيدة. هذا وإنّ زيادة تقبّل المجتمع لمبدأ استخدام هذه المياه ضروري من أجل إحراز التقدّم." مخاوف بيئيّة وصحيّة ما زال هناك نسبة كبيرة من مياه الصرف الصحّي التي تلقى في البيئة المحيطة دون جمعها ومعالجتها. ونلحظ هذه الظاهرة على وجه الخصوص في البلدان منخفضة الدخل، التي تعالج ما يقارب 8% من مياه الصرف الصحي الناتجة عن الاستخدام المنزلي والصناعي، وذلك مقارنة ب 70% في البلدان مرتفعة الدخل. ونتيجة لذلك، فإنّ مناطق عديدة في العالم تلقي المياه الملوّثة بالبكتيريا والنترات والفوسفات والمذيبات في الأنهار والبحيرات لينتهي بها المطاف لاحقاً في المحيطات ما يعود على البيئة والصحة العامة بآثار سلبيّة. ومن المتوقّع أن تزداد كميّة مياه الصرف الصحي الواجب معالجتها على نحو ملحوظ في المستقبل القريب لا سيّما في مدن العالم النامي والتي تشهد زيادة سكانيّة سريعة. ووفقاً لمعدّي التقرير: "تعدّ مشكلة مياه الصرف من أكبر التحديات المرتبطة بازدياد عدد التجمعات السكانية العشوائية (الأحياء الفقيرة) في العالم النامي." حيث أنّ مدينة مثل لاغوس في نيجيريا تنتج 1.5 مليون متر مكعّب من مياه الصرف الصحّي يوميّاً، وينتهي المطاف بمعظم هذه الكميّة دون معالجة ويلقى بها في بحيرة لاغوون في لاغوس. وإذا لم يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة في أسرع وقت ممكن، فمن المتوقّع أن يتدهور هذا الوضع أكثر فأكثر نظراً إلى أنّه من المتوقع أن يتجاوز عدد سكان المدينة 23 مليون نسمة بحلول عام 2020. وإن التلوّث الناجم عن الجراثيم الموجودة في الفضلات البشريّة والحيوانيّة، يلحق الضرر بقرابة ثلث الأنهار في أمريكا اللاتينيّة وآسيا وأفريقيا، ما يعرّض حياة ملايين الأشخاص للخطر. فعلى سبيل المثال، شهد عام 2012، 842 ألف حالة وفاة في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، بسبب المياه الملوّثة والخدمات الصحيّة غير الكافية. كما أنّ التقصير في معالجة المياه يساهم في انتشار الأمراض الاستوائيّة مثل حمّى الضنك والكوليرا. كما أنّ المذيبات والهيدروكربونات الناتجة عن النشاطات الصناعيّة والتعدين، بالإضافة إلى إنتاج المغذيات مثل النيتروجين والفسفور والبوتاسيوم من النشاطات الزراعيّة المكثّفة يسرّع تحمّض المياه العذبة والأنظمة البيئيّة البحريّة الساحليّة واتخامها بالمغذيات. ويقدّر حجم الأنظمة البيئيّة البحريّة المتأثرة بهذه الظاهرة بحوالي 245 ألف كيلو متر مربّع أي ما يعادل حجم المملكة المتحدة. هذا وإنّ تصريف مياه الصرف الصحي بهذا الشكل يعزّز انتشار الطحالب السامّة، ويساهم في انخفاض معدّل التنوّع البيولوجي. وبالتالي فإنّ زيادة الوعي بوجود الملوثات مثل الهرمونات والمضادات الحيويّة والمنشطات والمثبطات في مياه الصرف الصحي تشكّل جملة جديدة من التحديات حيث أنّ تأثير هذه المواد على البيئة والصحّة غير واضح بشكل كامل بعد. كما أنّ التلوّث يقلّل من وفرة إمدادات المياه العذبة التي تعتبر شحيحة بالفعل بسبب تغير المناخ. وعلى الرغم من ذلك، يساورالقلق معظم الحكومات وراسمي السياسات على وجه الخصوص بسبب التحديات المتعلّقة بإمدادات المياه ولا سيما عندما تكون شحيحة ونادرة، وبنفس الوقت نتغاضى عن الحاجة إلى إدارة المياه بعد استخدامها. ومع ذلك، فإنّ هتين القضيتين مترابطتان من حيث المبدأ. فإنّ جمع ومعالجة مياه الصرف الصحي واستخدامها السليم أساس للاقتصاد الدائري والتنمية الاقتصاديّة المتوازنة والمنصفة مع استخدام مستدام للموارد. وهكذا فإن هذه المياه تشكّل موردا ًغير مستغل، حيث يمكن أيضا إعادة استخدامها مرّات عديدة. من شبكة الصرف الصحي إلى الصنبور من المتعارف عليه أن المياه المستعملة تستخدم غالباً لأغراض الري الزراعي كما هو الحال في 50 بلداً حول العالم، أي ما يمثّل قرابة 10% من الأراضي المرويّة. ولكن، ما زالت البيانات غير كاملة في عديد من المناطق وعلى رأسها أفريقيا. ولكنّ هذه الممارسة تثير بعض المخاوف الصحيّة لا سيما عندما تحتوي المياه على الجراثيم التي يمكن أن تلوّث الجسم. وبالتالي فإن التحدي يتمثّل بالتحوّل من الري العشوائي إلى الاستخدام المخطّط والسليم كما هو الحال في الأردن منذ عام 1977 حيث تستخدم 90% من المياه المستعملة لأغراض الري. وكذلك الأمر في إسرائيل حيث تمثّل المياه المستعملة حوالي نصف المياه المستعملة للري. أما في مجال الصناعة، فإنّه يمكن إعادة استخدام كميات كبيرة من المياه. فعلى سبيل المثال، يمكن استخدام هذه المياه لأغراض التدفئة والتبريد عوضاً عن تصريفها في البيئة المحيطة. ومن المتوقع أن يتضخم سوق معالجة المياه الناتجة عن قطاع الصناعة بنسبة 50%. كما ويمكن للمياه المستعملة المساهمة في زيادة إمدادات ماء الشرب، ولكن هذه المسألة ما زالت ممارسة هامشيّة. ومن المدن التي تستعمل المياه لهذا الغرض، نذكر مدينة ويندهوك عاصمة ناميبيا، حيث تقوم بذلك منذ عام 1969. ولمواجهة النقص المتكرّر بمياه الشرب، قامت المدينة بإنشاء بنية تحتيّة لمعالجة ما يصل إلى 35% من المياه المستعملة والتي تستخدم لاحقاً في تكميل مخزون مياه المشرب. وجدير بالذكر أنّ سكان سنغافورة وكاليفورنيا (الولايات المتحدة) يشربون مياه مكرّرة ولم يصابوا بأذى. وقد تواجه هذه الممارسة رفضاً من الناس الذين قد تبدو لهم فكرة شرب أو استخدام مياه كانت ملوّثة من قبل غير مطمئنة. وبالتالي فإن نقص الدعم العام أدّى إلى عدم نجاح مشروع إعادة استخدام المياه لأغراض الري وتربية الأسماك في مصر في التسعينيّات. ويمكن لحملات التوعية المساعدة في قبول الناس لهذا النوع من المشاريع من خلال الاستشهاد ببعض الأمثلة الناجحة مثل تجربة رواد الفضاء في محطّة الفضاء الدوليّة حيث يستخدمون نفس المياء المكرّرة منذ أكثر من 16 عاماً. المياه المستخدمة والرواسب مصدر للمواد الخام إلى جانب دور المياه المستخدمة في توفير مصدر بديل وآمن لمياه الشرب، فإنّها توفّر أيضاً مصدراً للمواد الخام. وبفضل تطوّر تقنيات تكرير ومعالجة المياه، يمكن الحصول على بعض المغذيات مثل الفسفور والنترات من مياه الصرف الصحي والرواسب وتحويلها إلى سماد. وإنه يمكن تلبية ما يقارب 22% من الطلب العالمي على الفسفور الذي يعدّ مصدراً معدنيّاً محدوداً ومستنفداً، من خلال معالجة الفضلات البشريّة. وقد قامت بعض البلدان بالفعل مثل سويسرا بسن قانون ينص على الاستخراج الإلزامي لبعض المغذيات مثل الفسفور. ويمكن استخدام المكونات العضويّة الموجودة في مياه الصرف الصحي في إنتاج الغاز العضوي والتي قد تساعد في تمكين مصانع معالجة المياه، ومساعدتها على التحول من أبرز مستهلكي الطاقة لتصبح غير منتجة لغاز ثاني أكسيد الكربون بل وحتى منتجة للطاقة. ففي اليابان، قررت الحكومة استخلاص 30% من الطاقة الحيويّة من مياه الصرف الصحي بحلول عام 2020. وفي كل عام، تنتج مدينة أوساكا 6500 طن من الوقود الصلب من قرابة 43 ألف طن من رواسب مياه الصرف الصحي. يجب ألا تكون هذه التقنيات بعيدة عن منال البلدان النامية حيث أنّه هناك حلول قليلة التكلفة لمعالجة المياه واستخراج الطاقة والمغذيات. قد لا تكون هذه الحلول كافية بعد لمعالجتها لدرجة أن تصبح صالحة للشرب ولكنها كفيلة على الأقل بتوفير مياه نقيّة ومستدامة لاستخدامات أخرى مثل الري. كما أن مبيعات المواد الخام المستخرجة من مياه الصرف الصحي قد تقدّم مصدر دخل إضافيّ من شأنه تغطية تكاليف الاستثمار والتكاليف التشغيليّة لمعالجة مياه الصرف الصحي. ويقدّر عدد السكان الذين لا يمتلكون مرافق صحية متطوّرة اليوم بحوالي 2.4 مليار نسمة. وبالتالي فإنّ التقليل من هذا الرقم وذلك تماشياً مع الهدف الإنمائي السادس المعني بضمان توافر المياه وخدمات الصرف الصحي في خطة عام 2030 للأمم المتحدة، يتطلب تصريف كميات أكبر من مياه الصرف الصحي ما سيتطلب معالجتها بأسعار مقبولة. وجدير بالذكر أنّه تم تحقيق بعض التقدّم في هذا المجال. ففي أمريكا اللاتينيّة مثلا، تضاعفت جهود معالجة مياه الصرف الصحي منذ أواخر التسعينيات وتغطي ما يتراوح بين 20% و30% من مياه الصرف الصحي التي تجمع في شبكات الصرف الصحي في المدن ولكن ذلك يعني أيضاً أنّ حوالي 70% إلى 80% من هذه المياه تبقى بدون معالجة، وبالتالي فإنه ما زال هناك المزيد من العمل بهذا الخصوص. وسيجري اتخاذ خطوة ضروريّة بهذا الخصوص مع انتشار الوعي بقيمة الاستخدام السليم للمياه المعالجة وما ينتج عنها كبديل عن المياه العذبة.
مشاركة :