جميل مطرأتفق مع القائل بأن العالم، وليس فقط إقليم الشرق الأوسط، دخل بالفعل مرحلة جديدة وغير عادية. هذه المرحلة قد لا تشهد، بالضرورة أو بالأمل، تحولات جذرية ولا أقول ثورية خشية اتهام بالمبالغة، مع أنها قد تشهد، وهي تشهد بالفعل، تغييرات في هياكل القوة لم يحدث مثلها منذ المرحلة التي أطلقتها الحرب العالمية الثانية. ليست فقط هياكل القوة هي التي تتغير. بل يتغير أيضاً «توزيع» هذه القوة، إن صح التعبير. ما يحدث على صعيد مواقع القيادة الدولية، يحدث مثيله، مع اختلافات شكلية، في عالمنا العربي. أكتب هذا بعد أن وجدت نفسي في الشهور الأخيرة أتردد طويلاً، كلما وجدت نفسي مضطراً لمعالجة موضوع يتعلق بهذا العالم العربي. لا أذكر أنني ترددت، في السنوات التي عملت فيها، أو تخصصت فيها، في تفاعلات وتوزيع القوة في النظام العربي، في استخدام كلمات أو تعبيرات من قبيل عرب وعربي وعروبة وإقليم أو نظام عربي. بل أذكر جيداً أنني كنت حريصاً على ألّا أقع في خطأ إدماج الإقليم العربي في التحليل والرصد في إقليم أوسع كالشرق الأوسط. لم يكن في الأمر ترفع أو تعالٍ ثقافي أو عرقي، إنما كان حرصاً أكاديمياً على التمييز بين دول تختلف عن بعضها في اللغة وثقافة اللغة، ولكن أيضاً في التكوين والتركيب الاجتماعي. أظن أنني وزملاء من الذين حاولوا الغوص معي في فهم أصول وخلفيات ظاهرة النزاعات العربية - العربية، توصلنا إلى أن العلامة الرئيسية في منظومة النزاعات بين الدول العربية هي الزعم، بل ربما الاعتقاد، لدى معظم القادة العرب بأن لهم حقاً في توجيه أمور العرب الآخرين. الجديد كثير ومثير. مثلاً وجدت القلم، على عكس ما أريد، يعتاد استخدام تعبير الشرق الأوسط عند الكتابة عن مشكلات واقعة في صلب ما كان يُعرف بالنظام العربي. لم نعد نستطيع مناقشة الأزمة السورية من دون اعتبارها جزءاً من تفاعلات نظام شرق أوسطي، رغم إدراكنا الأكيد أن هذه الأزمة خرجت من رحم النظام العربي. تتطابق الحال مع حال العراق، ويُجرى الآن صنع تطابق مماثل للحال الليبية مع الحالين السورية والعراقية.بالتوافق العربي التركي، باستثناء الحالة المصرية الخاصة جداً، اندرج العرب شيئاً ما في عداد دول نظام الشرق الأوسط. وبالتنافر العربي - الإيراني، باستثناء الحالين العراقية والسورية وحالة نصف تنافر لبناني- إيراني، وحالة مصرية وسط، بين التوافق والتنافر، اندرج العرب أكثر وأكثر في فضاء الشرق أوسطية. وبالتقارب «الإسرائيلي» - العربي، وأقول العربي، بلا تحفظ، لأن الشواهد كثيرة وغير خافية، خاصة وأن «الإسرائيليين» يبشرون في الغرب وفي الشرق الأوسط ولدى الروس والآسيويين بأن حلفاً أو أكثر مع دول عربية يُجرى تشييده لبنة فوق لبنة. هكذا يُجرى اقتلاع آخر حجر في هيكل النظام العربي وهكذا، بالتوافق مع تركيا ، والتقارب مع «إسرائيل»، والاندماج الحثيث في تفاعلات وهياكل نظام أوسع، صار صعباً الحديث أو الكتابة عن نظام إقليمي عربي.في هذا الإطار تنعقد القمة العربية. لا أدعي العلم بتفاصيل الاستعدادات الجارية لهذا الانعقاد أو العلم ببنود جدول الأعمال. أستطيع من قراءة الاتصالات والتطورات خلال الأسابيع الأخيرة القول بأن الأرض جرى تمهيدها نسبياً، عبر تغيير في مواقف تقليدية وحساسة. مثلاً لمسة عصا ساحرة مست الوضع اللبناني العنيد والمتصلب، فتغير وصار مرناً وطيعاً وجاهزاً للمشاركة في القمة. مثال ثانٍ، فجأة ومن دون مقدمات طويلة ومعقدة وصل إلى بغداد وزير خارجية المملكة السعودية أملاً في ألّا يكون العراق مزعجاً أو عقبة في القمة. مثال ثالث، وقع تطور أو أكثر في علاقة المملكة بمصر خلال الأيام الأخيرة. مصر من جانبها تستعد للقمة سراً وبأسلوب غير مألوف، والأطراف جميعاً يعرفون أنه رغم تعقيدات «المسألة المصرية» وسلبياتها، اقتصادية كانت أم اجتماعية أم إدارية أم سياسية، تظل القاهرة مفتاحاً لعديد المشكلات العربية والشرق أوسطية. سوف يكون مطلوباً من هذه القمة توجيه رسائل إلى «من يهمه الأمر». رسالة إلى إيران تخلو من التهديد وتفتح الباب لمفاوضات، ولكن تعيد التنبيه إلى خطورة التدخل في اليمن والبحرين على أمن الشرق الأوسط وسلامه. ورسالة إلى الأسد تواصل التهديد، وتمتنع عن الإيحاء بتهدئة قادمة، وتدعم الفصائل غير الإرهابية. لن تطالب القمة بخروج القوات الأجنبية، ليس فقط لأن دولة عربية أو أكثر، تفكر في إدخال قواتها في اللحظة المناسبة، ولكن أيضاً لأن القمة لن تسعى لإغضاب تركيا والولايات المتحدة وروسيا، فلكل منها قواتها في سوريا. في كل الأحوال أتصور أن مصر سوف تحاول إيصال رسالة أخرى من القمة إلى سوريا، بوسيلة ما تتعهد فيها بالتمسك بموقفها.أتصور أيضاً، وهو الأهم، أن تبعث القمة برسالة موجهة أساساً إلى واشنطن، وكذلك إلى عواصم أخرى مهتمة. تحتوي الرسالة المحررة بصياغة غامضة شيئاً ما، على إعلان من القمة استعدادها لتطوير رؤيتها لحل المسألة الفلسطينية، بما يتماشى والتحولات الدولية والإقليمية في السنوات التي تلت انعقاد قمة بيروت، التي طرحت المبادرة السعودية. يبدو صريحاً وواضحاً أن «إسرائيل» وأمريكا تطلبان من القمة، وبغير اعتراض من روسيا وتركيا والصين، وبصمة الرضا وربما تشجيع مصري وأردني، أن تدخل الدول العربية أو عدد معين منها مع كل من مصر والأردن، وحبذا لو أمكن استبعاد حكومتي رام الله وغزة، أن تدخل في مفاوضات مباشرة بهدف عقد اتفاق سلام إقليمي، هو نفسه، يحل بنفسه قضية فلسطين حتماً وفوراً. أعتقد أن رسالة القمة لن تلتزم الطلب الأمريكي - «الإسرائيلي» بالرغم من الضغوط، ولكنها سوف تحاول ألّا تكون بعيدة عنه.أعتقد وبكل الصدق أن غالبية المساهمين في صنع قرارات القمة يشعرون بقلة الحيلة وضعف الحجة، وإن أنكروا. يعرفون كما نعرف أن الفجوة بين أغلبية الحكومات وشعوبها، أو ما تبقى من شعوبها، اتسعت على الراتق. من ناحية أخرى تعمقت مشاعر عدم الثقة المتبادلة بين الحكومات العربية وبعضها البعض، إلى حد ألحق الضرر بالعرب أجمعين. تمنيت لو اقتصرت القمة على جلسات ثنائية وأخرى متعددة الأطراف وجماعية، تناقش فقط حال الأمة، عسى أن يتوصل المؤتمرون لتعريف واضح وصريح للأزمة التي تجد الأمة العربية نفسها فيها، وإلّا فلتجتمع القمة وتنفض في هدوء، قبل أن تصدر قرارات تزيد الفرقة وتنشر الفتنة. كفانا ما نحن فيه. opinion@shorouknews.com
مشاركة :