القاهرة - أعادت دار "الشروق" المصرية مؤخرا توزيع كتاب "العيب في ذات أفندينا" للمؤرخ الدكتور يونان لبيب رزق، الذي يقدم فيه بحثا علميا منضبطا حول المساس بالحاكم، كما عرفته السلطة في هذا البلد منذ إنشاء أول برلمان عام 1866 وحتى حكم الرئيس الأسبق، حسني مبارك (1981- 2011). الكتاب يقع في 235 صفحة من القطع الكبير، ويشمل رصدا للقوانين التي صدرت واختصت بتجريم المساس بالحاكم، ورصدا تاريخيا للتحولات التي طرأت على موقف السلطة عبر سن القوانين وأسبابها وتفاصيل المحاكمات التي تعرض لها أصحاب أقلام. المؤرخ المصري، وفي مقدمة كتابه، قال إن "العيب في ذات الحاكم" من القضايا التي ظلت تفرض نفسها على التاريخ المصري في العلاقة بين رأس الدولة، كيفما كان مسماه: ملك، سلطان، أو رئيس جمهورية، وبين المصريين في مؤسساتهم، سواء كانت النيابية أو الصحفية، أو حتى على مستوى الأفراد. عبيد أفندينا ظاهرة "قداسة الحكام" في مصر الحديثة بدأت بعد إنشاء مجلس شورى النواب عام 1866، فظهور المؤسسة التشريعية يعني وجود أكثر من رأي، يمكن أن يتناقض أحدها مع رأى "صاحب الذات الخديوية". ثم إن الفترة نفسها شهدت ظاهرة الصحافة الأهلية، وأصبحت بذلك طرفا ثالثا في المعادلة، مما عرض جريدة مثل "الأهرام"، (أكبر صحيفة مملوكة للدولة حاليا) إلى الإغلاق. ويبدأ الكتاب الصادر عن دار "الشروق" للمرة الأولى عام 2008، بتمهيد واستعراض بدء الحياة النيابية فى مصر عبر مجلس شورى النواب، الذي عين الخديوي إسماعيل (1863 - 1879) أعضاءه. وقتها، وفي أولى الجلسات، شهد البرلمان حادثة طريفة، حيث وقف رئيس البرلمان يشرح للنواب أن الأصل في البرلمانات الأوروبية هو أن يكون هناك حزبان، أحدهما مؤيد للحكومة وآخر معارض لها، فيجلس المؤيد على اليمين والمعارض على اليسار، فما كان منهم جميعا الا أن تسابقوا للجلوس في الجهة اليمنى، مرددين بأنهم "عبيد أفندينا الخديوي فكيف يعارضون حكومته". وفي عهد الخديوي إسماعيل أيضا جرى احتجاز بشارة تقلا، مؤسس صحيفة "الأهرام"، في قصر عابدين (مقر الحكم)، وسط القاهرة؛ لأنه كتب في أحد مقالاته أن الفلاح مظلوم.. وكيف أنه كان للحاكم أفندينا هيبة ومكانة للحد الذي جعل العبيد وحاشية الخديوي يصرخون ويشقون الجيوب ويلطمون، إذ أن الخديوي إسماعيل عُزل ليحل محله ابنه توفيق (1879- 1892). وفي عصر الخديوي عباس حلمي الثاني (1892-1914) تمت محاكمة الكاتب الصحفي، أحمد حلمي، صاحب جريدة "القطر المصري"؛ لأنه نقل مقالا عن صحيفة "العدل" التركية اعتبرته السلطة المصرية أنه يهين أسرة محمد علي، ويتهمها بظلم المصريين والاستيلاء على مقدرات البلاد. وقد أورد صاحب الصحيفة المقال بدعوى الرد عليه وتفنيده، وبالفعل نشر تفنيدا له، لكن ذلك لم يشفع له. وفي أول حكم ضد مواطن أو صحفي مصري بتهمة "إهانة الذات الخديوية"، قضت محكمة، في أبريل/نيسان 1909، بسجن الكاتب عشرة شهور، وتعطيل الجريدة لمدة ستة شهور. أكبر رأس في البلد ومع تكرار مثل هذه الوقائع، تم وضع "قانون العيب فى الذات الملكية" بدستور 1923، ونص على أن "الملك هو رئيس الدولة الأعلى وذاته مصونة لاتمس". وشهد عصر الملك فؤاد الأول (1917- 1936) محاكمة الدكتور محمود عزمى؛ لأنه طالب في مقالة له بوضع حد للتدخلات، وإلا أصبح الدستور مجرد حبر على ورق. وقضت محكمة على عزمي بدفع غرامة 20 جنيها بعد تخفيف الحكم. كما حوكم الأديب عباس محمود العقاد (1889- 1964)؛ لقوله في مجلس النواب: "فليعلم الجميع أن هذا المجلس مستعد أن يسحق أكبر رأس فى البلد فى سبيل صيانة الدستور وحمايته". ووسط انقسام كبير، صدر حكم قضائي في ديسمبر/كانون أول 1930 بحبس العقاد 9 أشهر "حبسا بسيطا". وبانتهاء عصر أسرة محمد علي، وتنازل الملك فاروق (1936-1952) عن العرش اختفى العمل بقانون العيب في الذات الملكية؛ فلم يعد هناك ملوك. حماية القيم من العيب في أعقاب تحول مصر من الملكية إلى الجمهورية، إثر ثورة 23 يوليو/تموز 1952، لم يكن هناك مجال للعيب في ذات الرئيس جمال عبدالناصر (1956- 1970)، إذ أن الرجل معروف باستقامته، كما أن زخم الأحداث التي شهدتها مصر حالت دون ذلك، فالرجل لم يفقد شعبيته رغم التحديات والنكسة (هزيمة عام 1967 أمام إسرائيل)، وما دار في عهده، بل أنه لأول مرة تقبل المصريون فكرة الزعيم الأبوي بعد سعد زغلول (1858- 1927)، فالعيب في عهد عبدالناصر كان ممنوع برغبة شعبية، وفق المؤلف. ثم شهدت السنوات الأخيرة من حكم الرئيس محمد أنور السادات (1970-1981)، وخاصة بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1977، كمّا كبيرا من المعارضة السياسية لدرجة دفعت الرئيس إلى إصدار قانون "حماية القيم من العيب". ووفق المؤلف، فإن عهد مبارك (1981-2011) حمل الكثير من الهجوم عليه، وهو ما زاد في سنوات حكمه الأخيرة؛ بسبب دور نجله الأصغر جمال، وما تردد عن اعتزام مبارك توريث الحكم له. وهنا عمد المؤلف إلى المقارنة بين النقد والتجريح، معتبرا أن الكثير من الصحف الخاصة لم تعد تفرق بينهما. وفي معرض مقارنته بين السادات ومبارك، ذهب المؤلف إلى أن الأول له ماض سياسي، أما الثاني فإن استغراقه في الحياة العسكرية حرمه من أن يكون له موقف سياسي، إلا فى الفترة التي تولى فيها منصب نائب الرئيس (1975- 1981)، وهي فترة ليست قصيرة على أية حال، معتبرا أن سياساته جعلته "أقل فرعونية" عن أسلافه. ويونان لبيب رزق (1933-2008) مؤرخ مصري ترأس قسم التاريخ الحديث في كلية الأداب بجامعة عين شمس في القاهرة، وله مؤلفات وكتب عديدة، وكان عضوا في لجنة التاريخ بالمجلس الأعلى للثقافة (حكومي)، وعضوا في كل من مجلس الشورى (الغرفة الثانية بالبرلمان)، والمجلس الأعلى للصحافة. ومن بين مؤلفاته: "الحياة الحزبية في مصر في عهد الاحتلال البريطاني"، و"حرية الصحافة في مصر من عام 1778 وحتى عام 1924"، و"الأحزاب المصرية قبل الثورة"، و"مصر والحرب العالمية الثانية"، و"الأصول التاريخية ومسألة طابا.. دراسة وثائقية"، و"قراءات تاريخية على هامش حرب الخليج"، و"مذكرات فخرى عبدالنور"، إضافة إلى "الأهرام ديوان الحياة المعاصرة".
مشاركة :