يعتقد الدارونيون أنه في وقت ما وفي حلقة من حلقات التطور البيولوجي انسلخ الحماران (الوحشي والمستأنس) من نفس الأصل، كان الأول متمرداً شرساً وعنيفاً، بينما تمتع الثاني بالوداعة والطيبة. لفظت الأم أنفاسها الأخيرة إلى الفناء دون أن تنصح الصغيرين، مكثا لبعض الوقت مكانهما حتى ظهر لهم في الأفق كائن آخر يبدو من طلته أنه يتمتع بقدر من القوة والذكاء تمكنه من السيطرة على الأمور، سمَّى نفسه هذا الكائن الإنسان، عقد معهما اتفاق ضمني غير موثق ولا مكتوب، اتفاقاً قائماً على المصلحة المتبادلة؛ عليه الرعاية والحماية، وعليهما الطاعة المطلقة، رأى المتمرد أن المعادلة غير متكافئة، فما يبذله الحمار للسيد ربما يفوق بكثير ما يجود به السيد على الحمار، فهل من المعقول أن تقايض على حريتك الكاملة أياً كان المقابل؟ وما توابع هذا التنازل؟ كما أن الاتفاق غير قابل للتعديل أو إضافة ملاحق أو المطالبة بتغيير نوع العلف. رفض الشرس وانطلق في البرية متنعماً بالحرية في الوقت الذي سلم فيه الثاني كامل إرادته للإنسان يمتطي ظهره فيما عرف بالسخرة أو التسخير، مرت السنون وتتابعت الأجيال، ولكن طرأت تغيرات فارقة بين الحمارين والخيارين. جابَه الحر في البرية المخاطر التي تواجهه، وصارع الوحوش التي تنافسه على البقاء، حاول تأمين طعامه وأسرته وذريته، اعتمد على نفسه، سار في قطيع متلاحم مع ذريته، ولكنهم اضطروا أحياناً كثيرة إلى التفرق من أمام أسد أكثر شراسة؛ ليجد بعضهم صعوبة في كثير من الأحيان في العودة إلى رفقائه فيزداد بؤساً على بؤس، ربما وجد رأسه في فم تمساح جائع عندما طأطأ رأسه في البحيرة؛ ليروي عطشه بعد لهاث الجري تحت حرقة الشمس، توالد الحر في العراء، اضطر أحياناً إلى أن يترك فلذة كبده؛ ليذهب في رحلة قصيرة لجلب الطعام، ولكنه عاد ليجده في فم ذئب بلا رحمة، تناقصت ذريته جيلاً بعد جيل، وانحسر وجوده في مناطق بعينها في عالمنا المعاصر على أطراف القرى في الأحراش وبين الغابات، دفع ثمناً باهظاً لحريته ربما وجوده بالكامل، انحسرت جيناته وأوشكت على الفناء. انتشر الطيب في كل ربوع الأرض، دخل إلى كل بيوت القرية، سمح له سيده بالمبيت مع باقي الحيوانات في الحظيرة، أحضر إليه الطعام والشراب، زف إلى الأنثى عندما طلب الزواج، تمت رعاية نسله من الحمير الصغيرة في حدود الحظيرة دون أن يقوى أي منهم على أن يطأ بقدمه غرفة سيده، ولكن في المقابل حمل وابنه الجحش أثقال سيده دون أن يعلن تذمراً أو رفضاً، تحمل وحشية السيد وسخافات أولاده، لا يحق له أن يسأل عن الوجهة أو يرفض الحمل أو يرتاح قليلاً إلا بأمر سيده، وعندما قرر التمرد مرة سلخ السيد وجهه ونزع أظافره وربما خصاه إذا كان الجرم شديداً، ولكن السيد حريص على ألا يفقده فهو بحاجة إلى حمار دائماً، باع ذات مرة إحدى بناته في سوق الحمير، هلك السيد فانتقل ولاء الحمار إلى سيده الجديد. فقد الطيب حريته، ولكنه تمتع بالحماية والطعام والشراب، تناسل وتكاثرت جيناته وملأت الأرض وضمن البقاء والخلود غاية كل موجود في الوجود، ترى مَن فيهما أكثر ذكاء؟ ومَن فيهما فهم الغاية واختار الطريق؟ وأي الخيارين أقرب إلى الصواب؟ أن تحيا في كنف الراعي وتضمن لك مقعداً في مسرح الحياة وتنعم بالأمن والأمان وتؤمن لذريتك الطعام والشراب، ولكنك قد تضطر للرقص والطبل والزمر والغناء أمام سيدك أحياناً كثيرة؛ لتذهب عن نفسه الملل منك، ولتمنع الطامعين في جوار سيدك من الجلوس مكانك، أم تصبح أنت سيد نفسك وترفض أن تتصارع مع البهلوانات الأخرى للفوز برضا سيدك؟ أم بينَ بينَ ترقص لسيدك تارة ولنفسك أخرى؟ ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :