أثار خطاب نشر لرئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير جدلا لم يهدأ، وهذا يعني أن صوته حقق أول أهدافه، فتح النقاش على مصراعيه. ومعظم الصراخ ضده جاء من نشطاء من الجماعات الإسلامية في بريطانيا، والمنطقة العربية. والسلاح الذي رفع ضد بلير لم يكن سوى سكاكين التشويه والتخويف، واتهام بلير بأنه أعلن الحرب على الإسلام، وأنه يقود حربا صليبية. ماذا قال حتى أغضب وحوش الساحة؟! باختصار، الكاتب يقول بضرورة التمييز بين المسلمين والمتطرفين، وأنه يجب التعاون الدولي لمحاربة الفكر المتطرف. وهو ما يقوله إمام الحرم المكي في السعودية، وشيخ الأزهر في مصر، وما وقعت عليه معظم المراجع الإسلامية المعتبرة. لغة التخويف هي صيغة خطاب الإرهاب نفسه، نفس ما كان يبرر به زعيم «القاعدة» الراحل بن لادن، أن من يعارضه ويلاحقه من الغرب هم صليبيون يشنون حربا ضد الإسلام. وهذا ما فعله كتّاب الجماعات الإسلامية باتهام من ينتقد الجماعات المتطرفة بأنه يهاجم الإسلام! في حقيقة الأمر، ما قاله، ودعا إليه بلير في مقاله، الذي أعتبره من أهم ما كتب في هذا الشأن، في الحقيقة وقفة رائعة إلى جانب غالبية المسلمين، ودعوة لإنقاذ الإسلام المعتدل المحاصر، ودعم للجهود الإسلامية لتنظيف الدين ممن شوهوا سمعته. ولم يتوان عن نقد موقف الغرب، مثلا في تخليه عسكريا عن المعارضة السورية المعتدلة وترك الساحة للجماعات الإرهابية. والذي أقلق المعترضين، دعوته الصريحة والجريئة لدول العالم إلى الوقوف بدلا من التفرج على المسلمين على أنهم معسكرات، لأن الضرر يعم العالم لا المسلمين فقط. الوقوف ضد المتطرفين من أفغانستان إلى جنوب الصحراء، وهي الدعوة التي نتحدث عنها منذ نحو عقدين، متمنين على الغرب أن يتوقف عن الخلط بين المسلمين، وأن يقف ضد الجماعات المتطرفة، التي تركها تعيث وتعبئ الشباب بذرائع الحريات الدينية حتى صارت دولة مثل بريطانيا أكبر مجمع لهذه الجماعات الهاربة من بلدانها، يسمح لها، أو يسكت عنها، تقوم بالتنظيم والتجنيد وجمع الأموال والتعليم والاستيلاء على المساجد. بعد سنوات طويلة، جرى التحرك أمنيا لوقف، ثم اعتقال، قيادات مطاردة في بلدانها باسم الإرهاب، مثل أبو حمزة وأبو قتادة وبكري، بعد أن أفسدوا المجتمعات المسلمة في بريطانيا وخارجها. بلير يقول: الحل الأمني لا يكفي، بل تجب محاربة الفكر المتطرف، وذلك على مستوى دولي. فهذه الجماعات اختطفت الشباب والصغار باسم الإسلام، وفي ظل غياب الرقابة والإشراف الحكومي صارت تدرسهم الكراهية وتكفر المجتمعات التي يعيشون في داخلها! في مناهجهم، يعلمون الأطفال أين تقطع الأيدي والأرجل ومعها رسوم توضيحية بحجة أنها تدريس شرعي! علوم لا تدرس للتلاميذ في أي دولة إسلامية، وفي أحد مناهج الرياضيات يتم تعليم الأطفال الرياضيات باستخدام عد الرصاصات! وعندما حث على وقف خطف المتطرفين والتعاون دوليا ضدهم، وهذا بالطبع أغضب الجماعات المسيسة التي تؤدي دور الواجهات للجماعات المتطرفة والمسلحة. وما قاله بلير ينبع من تجارب حية لا تزال نتائجها المدمرة ماثلة أمامنا. فالغرب، كما قال بلير، كان يتفرج على معسكري الإسلام يتقاتل. وأنا أضيف عليه أن الغرب ارتضى التعامل مع الجماعات التي رفعت أعلام الإسلام، وخوفت مواطنيها والعالم باسمه. تعامل مع نظام آية الله الخميني بعد الثورة كممثل للإسلام والمسلمين، لكنه اكتشف لاحقا أنه نظام عدواني يصعب التعايش معه. والغرب هو الذي فرض على السلطة الفلسطينية إدخال حماس في الانتخابات رغم معارضة فتح الشديدة، وبعد دخول الحركة اكتشف أنها جماعة لم تحترم شيئا من تعهدات هذا داخل السلطة وخارجها. وهو الذي قبل التعاطي مع حكومة الترابي - البشير في السودان رغم انقضاضها على الديمقراطية. الغرب ظن أن الصبر عليهم سياسيا سيسهم في تطورهم الفكري وممارستهم في الحكم، لكن ثبت العكس. وموقف بلير مهم لأنه أكثر سياسيي الغرب صراحة، باح علانية بما يقوله غيره على جلسات العشاء الخاصة. وسجله الشخصي يشفع له بذلك. على المستوى الشخصي السياسي، هو الوحيد الذي يعمل منذ سنوات بقليل من الكلام، فهو يدير مشروع تمكين الفلسطينيين من اقتصادهم في الضفة الغربية المحتلة، وله منظمة تقوم بجهد كبير صامت في تشجيع الحوار الإسلامي - المسيحي. alrashed@asharqalawsat.com
مشاركة :