بحكم نشأتي في إحدى القرى الريفية الصغيرة، كان لازماً عليَّ الذهاب لـ"كُتاب أحد مشايخ تحفيظ القرآن الكريم". سمعت الشيخ يوماً يقرأ آيات قصة اليهود مع ذبح البقرة في سورة البقرة، فسألته عنها، بداية نظر لي متعجباً، فليس من حق طفل صغير السن مثلي الخوض في هذه الأمور، كما أنني لم أحفظ بعد سوى 3 أجزاء من القرآن، ولم أصل بعد لسورة البقرة، لكنه في النهاية، فسَّر لي الآيات على أنها تعليم وإرشاد لهم لعدم الخوض في التفاصيل والتشدد في البحث عن المعلومة غير ذات القيمة التي لن تقدّم أو تؤخر، واستسهب في الشرح قائلاً إنهم كلما زادوا التشدد في البحث عن التفاصيل، زاد عليهم الله -عز وجل- الشروط والتعقيدات التي تثقل كاهلهم، في وقت كان في متناول يدهم أخذ الأمر الإلهي في أوله وتنفيذه ببساطه بما يتماشى مع طبيعة سؤالهم عن إحياء الموتى. تحمست بعقلي المحدود لاستمرار الحوار، ففي حداثة السن هذه، يستمتع الطفل بإظهار قدرته على التفكير أمام رجل يملك علماً ومعرفة، أخبرته أن الأولى باليهود البحث في تفاصيل مقتل الرجل الذي قامت عليه الآيات إن كانوا يقيموا الحق، بابتسامة شبه ظاهرة هز رأسه بالإيجاب، وعاد للحديث. عندما انتهينا من الشرح، وعندما أنهى تخزين معلومة العبرة الخاصة بـ"اليهود" في رأسي، كان موعد صلاة الظهر قد حان، فسألني هل توضأت للصلاة، فأخبرته بالإيجاب، فطلب مني سرد تفاصيل الوضوء التي اتبعتها، فأجبت بأني توضأت، فأعاد السؤال مرة أخرى، وكلما أخبرته تفصيلة راح يشرح ويسرد الخطأ الذي وقعت فيه. حاولت تفادي الشرح المسهب وتحميلي الخطأ، فادعيت أني تحممت قبل مجيئي لـ"الكُتاب" غسلت جسمي كاملاً، ولم أنقض وضوئي، وهنا فتحت له الباب لسلوك طريق جديد للإسهاب والسؤال حول كيفية تحممي وقواعد الاستحمام حتى أكون طاهراً متوضأ بما تسرده كتب الشرح الديني. بعفوية الطفولة سألته: أليست الحكمة من الوضوء هي أن أطهر أجزاء جسدي المعرضة للاتساخ حتى أتهيأ للصلاة، فأجاب بعنف وحدة بأن لكل أمر تفاصيل واجبة الاتباع بدقة، فعدت بعد أن ربط فكري المتواضع بين كلمة التفاصيل في شرح آيات البقرة والتفاصيل التي ذكرها، وذكرته بالأمر. نهرني وشدد على أن الأمر الإلهي في السورة جاء في البداية واضحاً، واليهود هم من ابتدعوا التفاصيل فشدد الله عليهم الأمر، فتساءلت بغير علم: وهل أمر الله بالوضوء بكل التفاصيل التي يسألني عنها، جاء في القرآن واضحاً حتى أعي هذه التفاصيل، فعادت نبرة الشدة والنهر في حديثه، وسرد شروحات من كتب السلف في كيفية الوضوء. الشيخ كان حازماً في مطالبته بالتفاصيل فيما يراه يخصه ويخصنا، وكارهاً لمطالبة قوم آخرين بالتفاصيل معتبراً مطالبتهم هذه قمة التشدد التي سردتها السورة لبيان ضرورة البعد عن التشدد. احترت لأعوام بين تشددهم وحدته، واستمرت حيرتي معي وأنا أرى أجيالاً بعد أخرى تعيش التشدد ذاته في التفاصيل، تتعلمه، تدرسه، تؤمن به، وتبحث في أتفه الأمور ليزداد التدين تشدداً وتعصباً عليهم، فبعضهم ما زال يسأل في يومنا هذا هل الكلب نجس أم لا، وفي الطرف القائم على التفسير والفتوى يهتم من يطلق عليهم رجال دين بالأمر ويدرسونه ويشرحونه، بعضهم يبرئ الكلب وآخرون يصرون على نجاسته. نقض الكلب للوضوء يشغل مستويات التفكير العليا لديهم، ولا يشغلهم أطفال من أبناء جلدتهم يموتون يومياً، يرهقهم خوفهم من نقض وضوئهم، ولا تشغلهم منظومات التعليم الفاشلة التي تخرب عقول أجيال، تدمرهم وتزرع جذوراً قوية للتعصب والتشدد في عقولهم.. أهي نجاسة كلب أم نجاسة فكر؟! ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :