في أربع عشرة وحدة سردية، تضع الكاتبة الأردنية رولا البلبيسي روايتها «على عتبة حلم» (ثقافة للنشر والتوزيع)، وتُسند عملية الروي فيها إلى أربعة رواة؛ فيتناوب على الروي كل من ليلى وفارس، بطلي الرواية، بوتيرة ست وحدات سردية لكل منهما، وينقطع التناوب في الوحدة الثامنة حيث يقوم صقر، إحدى الشخصيات الرئيسة، بالروي، وفي الوحدة الثالثة عشرة حيث يقوم المحقق، إحدى الشخصيات الثانوية، بالروي. وهكذا، ثمة عدالة، في الشكل، في توزيع الوحدات على بطلي الرواية. وثمة غبن يلحق بشخصية صقر، على رئيسيّتها، فيقتصر رويه على وحدة سردية واحدة مستوياً بذلك مع المحقق، على ثانويّة هذه الشخصية. على أن العلاقة بين الوحدات المتعاقبة هي علاقة تكامل، فالمشهد الروائي يكتمل حين يتم رويه من منظورين اثنين أو أكثر، وعملية التكامل قد تحدث بين وحدتين متجاورتين كما في الوحدتين الثامنة والتاسعة أو العاشرة والحادية عشرة. وقد يحدث بين وحدتين متباعدتين كما في الوحدتين الأولى والحادية عشرة، على سبيل المثال. في روايتها، تتناول البلبيسي: التفكك الأسري، تأثير النشأة على الإنسان، الحب الخائب، الفشل الزوجي، النفاق الاجتماعي، والقمع السلطوي، وانعكاس هذه الموضوعات على شخصيات الرواية، وتحكّمها بمساراتها ومصائرها. وهي شخصيات تختلف في خلفياتها الاجتماعية، وتتقاطع مساراتها في نقاط معيّنة، وتتفق في مصائرها الواقفة على عتبات الأحلام، حتى إذا ما شُبّه لها أنها اقتربت من تحقيق أحلامها، جرى إجهاضها، بعامل خارجي غالباً، هو أمر واقع أقوى من الحلم. لكلٍّ من شخصيات الرواية حكايتها الفرعية التي تدخل مع حكايات الشخصيات الأخرى في علاقة توازٍ أو تقاطع أو تكامل، لتشكّل الحكاية الأصلية، وفيها: يمثّل اللقاء العابر بين فارس، النائب الحالي المتحدّر من خلفية اجتماعية بائسة، وليلى، المتحدّرة من خلفية اجتماعية غنية، في معرض فني، بداية نصّية لأحداث الرواية، يروح كل منهما، بالتذكّر والروي، يستعيد بدايات العلاقة الفعلية العائدة لعشرين عاماً خلت، مروراً بالبداية النصّية، وصولاً إلى نهاية الحكاية في النص والواقع. وفي سياق هذه الاستعادة، يجرى رسم شخصيات أخرى كان لها تدخّلها في مجرى العلاقة والأحداث، سلباً أو إيجاباً، حتى آلت إلى النهايات المرسومة. انطلاقاً من هذه العملية التي يتناوب فيها كل من فارس وليلى على فعل الروي، في اثنتي عشرة وحدة سردية، تعاني ليلى، ابنة السابعة عشرة في حينه، من علاقة ملتبسة بأمها التي ترفضها مذ كانت جنيناً في رحمها وتحاول إسقاطها وترفض إرضاعها، ولا تهتم بتسميتها، وتهمّشها، وتنشغل عنها بعلاقاتها الاجتماعية الفارغة، ما يترك ندوباً في نفس البنت، وينعكس على مشاعرها إزاء أمها، فتهرب إلى الرسم تعوّض به عمّا تفتقده في الأم من جهة، وتنتقم منها به من جهة ثانية، وتشكّل لوحاتها جزءاً من روحها. لذلك، تحس بالصدمة حين تدخل إلى غرفة نومها التي يقوم بطلائها فارس، الشاب الفقير المنتمي إلى القاع الاجتماعي، وتجد أن لوحاتها قد أزيلت متهمةً أمها بذلك. غير أن قيام فارس بإخفاء اللوحات، خلافاً لتوصية الأم المتسلّطة التي أمرته بإحراقها، يشكّل بداية علاقة بين فارس، القادم من «حارة تفيض فيها الروائح الكريهة والظلمة... ظلمة شوارع وظلمة جحور وظلمة نفوس...» (ص16) وليلى، ابنة القصر، وتحدث تحوّلات في الشخصيات؛ فليلى التي تنوء بحبٍّ مجهض وأمومة ملتبسة، تجد في زميلي الدراسة المتحابّين فلسطين وصقر ما يخفّف من حملها، حتى إذا ما اختفت فلسطين، لدى عودتها إلى فلسطين، في ظروف غامضة، تُضيف إلى حملها ذكرى صداقة مغدورة. وحين يظهر في حياتها زياد، الأستاذ الجامعي العامل في الإمارات المتحدة، ويطلب يدها، توافق لعلّها تجد في الزواج ملاذاً من حبيب سارق وأم متسلطة وصديقة راحلة، لكن حساب البيدر عندها لا يطابق حساب الحقل، فتكتشف أن الزوج «بطيخة عفنة» يجمع بين المزاجية والسطحية والمرض والإدمان والعنف الأسري. لذلك، تقوم بإجهاض حملها منه، وتمــتنع عن إعــطائه حبة الدواء التي تنقذه من نوبة قلبية خلال ضربه إياها، فترتكب جريمة مزدوجة ولو من موقع الدفاع عن النفس. أمّا فارس، فيشكّل إنقاذه أحد مشاهير السياسة والأعمال نقطة تحوّل في مسار حياته؛ يتابع دراسته الجامعية، يجد فرصة العمل، ينخرط في علاقات مشبوهة يراكم بها إنجازات مالية وسياسية، ويرتقي من لص غبي إلى لص محترف يعقد الصفقات المشبوهة. وفي محاولة منه للتنصل من زواج فاشل، يدسّ لزوجته سلوى التي خطّط للزواج منها دواء يُجهضها، متقاطعاً في فعلته هذه مع فعلة ليلى، ثم يقوم بطلاقها. ليلى وفارس كلاهما لم يستطع التحرّر من حب الآخر. لذلك، حين يضعهما القدر وجهاً لوجه في المعرض الفني، بعد عشرين عاماً من الفراق، يروح يخطّط لإحياء الماضي ووصل ما انقطع بينهما. تتجاوب هي معه بعد تردّد، حتى إذا ما شارفت خطّته على النجاح وكاد الحلم القديم المشترك يتحقّق، يهرب فارس، في غفلة من السلطات، بإشعارٍ من جهات خارجية مشبوهة يرتبط بها، بعد تسليط الأضواء على فساده وعلاقاته، ليُعثَر عليه مصاباً برصاصة في الرأس في شقته البرلينية. أمّا ليلى التي تلتقي بصقر، زميل الدراسة الجامعية سابقاً والمسؤول الأمني الرفيع حاليّاً، وتطلب مساعدته في العثور على أسرة كانت تقيم معها، فإن هذا الأخير الذي يصطنع مظاهر السلطة في البداية يقوم بمساعدتها، ويُبدي حرصه عليها محذّراً إياها من فارس وعلاقاته المشبوهة، ويروح يتقرّب منها، حتى إذا ما أُحيل على التقاعد بسبب دوره القمعي، يقوم بالزواج منها، هو الذي يحسّ بالاختناق من حياته الزوجية الرتيبة، ويذهبان معاً إلى حيث أسرة فلسطين، حبيبة صقر وصديقة ليلى، ليتحوّل الماضي الحزين إلى حلم مستقبلي بديل من ضائع. «على عتبة حلم» لرولا البلبيسي هي رواية الحب الضائع، والزيجات الفاشلة، والأحلام المجهضة، والعلاقات الملتبسة، والمصائر القاتمة، والظروف التي تصنع أبطالها والضحايا. لكنها في الوقت نفسه رواية البدائل الممكنة، والبدايات الجديدة، والنهايات المحتملة. رواية
مشاركة :