منذ بدايات مشروع النهضة في المملكة كان تأسيس التعليم وشق دروبه وتوطيد دعائمه يصدر الكثير من الصخب والضوضاء دونا عن بقية المجالات التي طالتها التنمية، وهي الضوضاء القادمة في معظمها من تيار مقاومة داخلي كان يرى في التعليم المؤسساتي خطرا يهدد الأنظمة المعرفية التقليدية، فطورا كان هناك رفض لإدراج المواد العلمية كالحساب والهندسة في المناهج، وطورا آخر رفض لإدراج التربية البدنية، ومن ثم بعدها اشتعلت معارك تعليم البنات، ومن ثم كر وفر الابتعاث ومن ثم فتنة تطوير المناهج.. وطوال هذا التجاذب والاحتراب والغضب العارم، لم تتم مراجعة أو مساءلة الهياكل الإدارية للمؤسسات التعليمية، واللوائح التنظيمية، أنظمة المحاسبية والشفافية، ولم تكن قضايا الفساد والمركزية الإدارية والمحسوبية جزءاً من قضايا إصلاح التعليم، فتجذرت عميقا منذ مطالع التأسيس وكونت هيكلية عميقة وبروتوكولا مخفيا متفقا عليه بإجماع شبه سري، إلى أن بدأت تفوح قضايا الفساد وتطفو على السطح بشكلها الصادم للمجتمع. أذكر أنني قد درست في مدرسة مستأجرة ذات بنيان هزيل وضيق كان الطاقم التعليمي يشكو منه، ولكن أحاديث النميمة والشائعات بين المعلمات كانت تسرب الأرقام الفلكية التي استؤجر بها ذلك المبنى ضمن عقود مبطنة بين المستأجر والمسؤول، وهي الفترة نفسها التي احترقت فيها مدرسة بنات في مكة لفشل الصيانة وخطط الإخلاء ووجود حراس الفضيلة أمام البوابة يتأملون بنشوة الورع أجساد الفتيات وهي ترشفها النيران. لم تكن قضية الفساد إطلاقا من ضمن القضايا الاشكالية التي تطوق التعليم، ولم تقم ثائرة الغيورين والمزايدين على المجتمع بالدين ومدعي الوطنية على هذه القضية كثورتهم على تعليم النساء، ولم يذهب المحتسبون زرفات وآحادا لإنكار العقود الوهمية والانتدابات الكاذبة والدوامات المقتطعة، كذهابهم لإنكار إدخال التربية البدنية لتعليم البنات، ولم تصدر البيانات الملتهبة ضد النخر الإداري الذي كان يدور هناك.. كرفضهم تعليم اللغة الإنجليزية من الصفوف الأولية، فطالما بواب مدارس البنات يحرس المرمى والقيم معا.. فلا بأس. جميع هذا يجعلنا نتساءل عن تراتبية القيم التي يستمد منها هؤلاء قيمهم الأخلاقية، التي تجعل من تعليم المرأة كارثة اجتماعية، بينما الفساد الإداري يمكن أن يغض الطرف عنه أو حتى قد يكونوا جزءاً منه؟ وهذا بالتأكيد يأخذنا إلى حقيقة وطنية لابد من الاعتراف بها والتعامل معها كأمر واقع في معظم المؤسسات الحكومية، فمازال بعضنا يعيش بعقلية الصحراء وضمن قيمها وعلاقاتها، مازلنا لم ندخل الدولة المدنية الحديثة ولم نعالج بواباتها، مازالت العلاقات بين أفراد المجتمع تقوم على العشائرية والمحسوبية. ومن هنا لم تكن صادمة بالنسبة للمجتمع قضايا الفساد التي تنخر المؤسسات الحكومية كونها امتدادا لإرث علاقات صحراوية قائمة على الفزعة والمحسوبية، وانصر أخاك ظالما ومظلوما. ولم يكن الولاء للدولة المدنية الحديثة وقوانينها الضابطة والقائمة على الشفافية والمحاسبية وانفصال السلطات، بل قد نقل الصحراوي قوانينه إلى داخل تلك المباني الأسمنتية، فأصبح القانون هو.. وظّف فلانا لأنه مدعوم.. وقرّب فلانا لأنه من الربع، وأصبح كرسي المنصب هو نوعا من الاستحواذ السلطوي للحصول على الامتيازات والجاه أكثر منه مقعدا تكليفيا بقوائم لامتناهية من المسؤوليات الوطنية. المفارقة هنا بأنه كلما كان الصخب والضوضاء مرتفعين حول تطوير المناهج وتحديثها، ورياضة البنات، وتدريس المعلمات للصفوف الأولية.. كانت الخلفيات الإدارية تستثمر هذا الستار من الضوضاء في مآربها الإدارية الخاصة. الفضيحة الإدارية التي تفجرت مؤخرا لإحدى إدارات التعليم هي جبل الجليد.. لثقافة تضرب جذورها عميقا هناك.. ثقافة اعتادت أن تلهي الرأي العام بقضايا النساء والهامش.. لتظل هي بمنأى عن المساءلة والمتابعة والمحاسبة.
مشاركة :