بعد أكثر من خمسة أشهر على الانتخابات التشريعية لـ7 أكتوبر/تشرين الأول 2016، ما زالت المشاورات الحكومية تراوح مكانها، بعد أن أصرَّ كل من طرفَي المعادلة التفاوضية على مطالبه وشروطه، أخذاً بعين الاعتبار الحسابات الخاصة والمنطلقات والمرجعيات والأهداف، في رؤيتهما للتشكيلة الحكومية المقبلة، وهو ما أوصل هذه المشاورات إلى ما سُمي بـ"البلوكاج"، مما حدا بجلالة الملك إلى التدخل طبقاً للدستور، وإعفاء عبد الإله بنكيران من مهمة تشكيل الحكومة. ومن خلال تتبُّع النقاش حول مسار هذه المشاورات بين حزب العدالة والتنمية في شخص أمينه العام، (رئيس الحكومة المعفَى)، وبين التحالف الرباعي الذي يقوده عزيز أخنوش، رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، إضافة إلى أحزاب الحركة الشعبية، والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والاتحاد الدستوري، يبدو أن معالم الاختلاف بين الطرفين المتفاوضين بدأت تتضح في الأفق، مما يشير إلى وجود تصورين اثنين للحكومة: • الأول: يمثله حزب العدالة والتنمية، المستند إلى الشرعية العددية، أي مخرجات نتائج اقتراع السابع من أكتوبر، الذي يريد تشكيل الحكومة وفق الأغلبية الحزبية التي تشكلت من الحكومة المنتهية ولايتها، من أجل مواصلة الإصلاح شكلاً، والتغلغل داخل مؤسسات الدولة وخدمة لمصالح الحزب والمؤسسات التابعة له مضموناً. • الثاني: يجسده التحالف الرباعي بقيادة عزيز أخنوش، الذي ينطلق في تصوره لتشكيل الحكومة على أساس برنامج واضح، تعمل من خلاله الأحزاب المشكّلة للحكومة على الاشتغال دون هيمنة حزب العدالة والتنمية، وكذلك تأكيده الانخراط في بلورة خطاب دكار، انسجاماً مع التوجهات الاستراتيجية للمملكة في إفريقيا المرتكزة على القوة الاقتصادية والاستثمارية والدبلوماسية، وكذا اشتغاله وفق تصور يستفيد من الخبرة التي اكتسبتها الأحزاب المكونة له في مشاركتها في الحكومة المنتهية ولايتها، والتي على ما يبدو أكسبتها مناعة ضد الممارسة السياسية للعدالة والتنمية، المستمدة من نظرية "الشيخ والمريد". هذا المنطق الفكري الذي يتميز به عقل الإسلام السياسي، المتمثل في نظرية "الشيخ والمريد"، والذي يجسده حزب العدالة والتنمية، يتضح بشكل جلي خلال الملتقى الذي نظمته شبيبة الحزب مؤخراً بمدينة الوليدية؛ حيث أكد عبد الإله بنكيران، الأمين العام للحزب، أمام شبيبته في المجال القروي، الشرعية العددية للحزب بناء على نتائج الانتخابات، التي على أساسها يجب إخضاع الآخرين من الأحزاب للامتثال لها، أو اتهامهم بالانقلاب على الإرادة الشعبية؛ ليمر مباشرة إلى استغلال الفرصة لإعادة تذكير الجميع بأنه الورقة التي أخرجت المغرب من "عافية 2011"، وأنه كان لحزبه الدور الأول في إطفائها، وأنه الحزب الذي جاء "ليصلح ويعلم الناس كيفية الصلاة ويدعوهم إليها"، على اعتبار أنه "هبة من السماء لهذه البلاد". إضافة إلى هذا النوع من الابتزاز، استمراره في أسلوب التباكي والمظلومية، وكأنه الحزب الطاهر المنقذ الذي يمتلك الحقيقة وعلى هدى من الله، وهو نفس المنطق الذي تستند عليه ما تسمى "جماعة العدل والإحسان"، غير المعترف بها، في أوراقها المرجعية التي سطرها "المرشد، المجدد، العبقري، المنقذ.."، بكونها "الجماعة التي تسير على طريق الحق"، وأنها المضطهدة والمظلومة، ولا غرابة في أن نقرأ في أحد بياناتها حول ما اعتبرته "حملة إعفاءات على أطرها"؛ حيث تضمن البيان في إحدى نقاطه مطلب فتح "جبهة وطنية للدعاء لنصرتها". هذا المنطق المستند على المظلومية، الذي ظل وما زال ينتهجه حزب العدالة والتنمية، سواء وهو في الحكومة أو خلال الحملة الانتخابية أو خلال مشاوراته الحكومية، وكذا في تعامله مع باقي المكونات الحزبية والمجتمعية جعله، في كل خطاباته وتصريحاته، وتصريحات قيادييه، ودروعه وجيوشه وآلاته الإعلامية، يذكرون ويؤكدون حصولهم على "الشرعية العددية"، وتقديمها للرأي العام على أنها "الشرعية الشعبية"، كمصدر للممارسة والوصاية والهيمنة على المجتمع ومكوناته السياسية والمدنية، محاولين جعلها ترقى للمقدسات ولثوابت الأمة، من أجل "مواصلة الإصلاح والدعوة للصلاة"، متجاهلين بإصرار أن هذه "الشرعية الشعبية" لم تكن يوماً لأي حزب سياسي في تاريخ المغرب، ولم تفرزها يوماً صناديق الاقتراع، وذلك بالنظر إلى عاملين: الأول: عدم قدرة الأحزاب السياسية على إقناع الناخبين وفئات عريضة من الشعب، وبالتالي بقي عملها فئوياً، ومناسباتياً، وبالتالي ظلت هذه الأحزاب على مر السنوات غير قادرة على الدفاع على مطالب مختلف الفئات المكونة للشعب المغربي، وظل عملها منحصراً ضمن خانة منخرطيها والمتعاطفين معها. ثانياً: طبيعة نمط الاقتراع المعتمد (التمثيل النسبي على أساس أكبر بقية، وتحديد العتبة الانتخابية) الذي لا يسمح بحصول أي من الأحزاب على الأغلبية المطلقة. إن إصرار عبد الإله بنكيران، الرئيس المعفى من مهمة تشكيل الحكومة، خلال مشاوراته على مشاركة عزيز أخنوش في تشكيل الحكومة المقبلة هو إدراكه بافتقاده للشرعية السياسية التي تستمد مقوماتها من القوة الاقتصادية، كمحدد لها، هذه القوة الاقتصادية التي يراهن المغرب على استثمارها في توجهاته الجديدة، سواء على المستوى الداخلي في استكمال بناء الأوراش الكبرى، أو على المستوى الخارجي، خصوصاً بعد استعادة عضويته داخل الاتحاد الإفريقي، والمشاريع الاستثمارية والاتفاقيات الاقتصادية التي أبرمها المغرب مع عدة دول إفريقية، والتي من المفروض أن تكون هذه الاستراتيجية حاضرة لدى رئيس الحكومة المكلف، انسجاماً مع التوجهات والتصورات الملكية للدبلوماسية المغربية في محيطها الإقليمي والقاري. في ظل ما ستسفر عنه الأيام المقبلة من جديد في الموضوع، بعد قرار إعفاء الأمين العام من مهامه كرئيس مكلف بتشكيل الحكومة، الذي يعتبر كنتيجة طبيعية لما سبق ذكره أعلاه، يبقى أمام هذا الحزب خياران اثنان: • الأول: استمراره على خُطى المنهجية التي اتبعها عبد الإله بنكيران في مشاورات تشكيل الحكومة، وذلك استناداً على بيانات الأمانة العامة للحزب التي كانت تزكي وتدعم جميع قرارات بنكيران؛ لكي يبقى الحزب منسجماً مع ذاته، على اعتبار أن مختلف قراراته تتخذ بالإجماع وبانسجام تام، حسب تعبيرات قيادييه. • الثاني: الإعلان عن عدم قدرته على تشكيل الحكومة، والاصطفاف مع المعارضة، والاستمرار في مطالبته بـ"الإصلاح والدعوة إلى الصلاة". بعد أزيد من خمسة أشهر من المفاوضات والمشاورات الحكومية، عادت هذه الأخيرة إلى نقطة البداية، في انتظار الخلف الذي ربما قد يتدارك أخطاء سلفه، ويتحلى بالواقعية السياسية بعيداً عن الفهم السطحي لمفهوم الشرعية العددية، والانخراط العملي في التوجهات الجديدة للمملكة التي أسس لها جلالة الملك ملامحها في خطاب دكار، القادرة على كسب الرهانات والتحديات المطروحة على الساحتَين الوطنية والقارية، لا سيما في الملفات الكبرى المرتبطة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والدفاع عن القضية الأولى للمملكة. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :