القزم العملاق والضخم الضئيل

  • 3/28/2017
  • 00:00
  • 20
  • 0
  • 0
news-picture

ضمرة النهشلي من أعلام الجاهلية، ومن رجالات بني تميم؛ سيدا وشاعرا، يقتحم العقول فكريا، لا يقعقع له بالشنان، بليغا إذا نطق أفصح ببيان، شجاعا ينازل بجنان، وهو من قال: الرجال لا تكال بالقفزان، وهو من قيل فيه: لأن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، لضآلة جسمه، وعبقرية فكره، والمعيدي تصغير معدي، نسبة إلى معد بن عدنان، وحين سأله ملك المناذرة النعمان: هل عندك علم بالأمور؟ قال: نعم، إني لأنقض منها المفتول، وأبرم المسحول، ثم أجيلها حتى تجول.. وتاريخنا يزخر بالشعراء والحكماء من هو ضئيل في جسمه عملاقا بفكره، مثل الحطيئة والأحنف بن قيس، ولقمان الحكيم وغيرهم كثير. استوقفني الفيلسوف الألماني كانط، مثل ما استوقفني ضمرة، يمتاز بالزكانة والفراسة، وبجيَشان الشعور، وفرط الحس والنباهة، وفي الهيئة عرجونا حين تبصره، يبدو ضئيلا ضعيفا تستصغره، وحين يتحدث يزداد هيبة فتقدره. وفي يوم كان كانط يتنزه في الحديقة؛ عندما استوقفه أصدقاؤه، وفتحوا معه موضوع حرب الاستقلال 1775ــ 1783، التي كانت دائرة حينها بين بريطانيا العظمى والثوار الأميركيين، فحمل على بريطانيا حملة شعواء، ينحو عليها باللائمة في استعمارها للدول، وقتلها شعوبها؛ عند مطالبتهم بالاستقلال من ربقة التاج البريطاني. استمر كانط في حملته العنيفة ضد الاستعمار البريطاني، ولم يوقف هجومه إلا صوت رجل عملاق، عريض المنكبين مفتول العضلات، ينحني أمامه في أدب جمّ، وهو يقول: إنني يا سيدي أدعوك إلى المبارزة، وأترك لك تحديد الزمان والميدان ونوع السلاح! ولم يجبه على الفور كانط، فمن عادته أن يفكر طويلا في كل شيء مستفسرا، وسأله مندهشا: ولمَ يا صاح؟! وماذا فعلت؟! فأجابه الرجل بثقة وأصرار: لأنني يا سيدي رجل إنكليزي يحب بلده، وأنت منذ ما يقرب من الساعة؛ تهين بلادي وتعنفها على مسمع الجميع..! أسقط في يد كانط ماذا يفعل؟ صحيح أنه أخرج مذهبا فكريا؛ أفزع أوروبا وهزها هزا قويا؛ فقد كان ماردا جبارا في عالم الفكر، يحمل في رأسه ثورة من الأفكار، أُطلِق عليها فيما بعد، اسم الثورة «الكوبرنيكية» في الفلسفة، لأنها قلبت موازين المعرفة على نحو ما فعل كوبرنيكس في قلب مفاهيم علم الفلك، وتأسيس علمه الحديث، لكنه مع ذلك كله؛ كان جرمه صغيرا هزيلا قزما بين الرجال، ولم يعرف في حياته قط سلاحا، سوى سلاح الحوار العقلي والمنطق والبرهان، وليس له في الشجار مذهب، فكيف يخرج من هذا المأزق، ومن هنا تأنى كانط في الجواب كعادته، وأطال التفكير. لقد كان كانط يقتحم العقول فكريا، بشجاعته الأدبية، وبعد تفكير عقلي، قال: اسمع يا صديقي، أنت تعتقد أنني أهنت وأخطأت في حق بلادك، وتطلب مني المبارزة، واختيار نوع السلاح، وأنا أوافقك بشرط واحد: أن توافق على أن نتبارز بنفس السلاح؛ الذي اخطأت به، أيُّ الذي وقعت فيه الإهانة، وأعني به سلاح البرهان والمنطق، في ميدان المناقشة والحوار، لقد اختار كانط سلاحه، كما كان يختار ضمرة سلاحه، وهو واثق من قدرته على ممارسته وبراعته فيه، فلم يلبث خصمه أن تراجع واعترف بالهزيمة، بعد حوار قصير، تحول القزم بدنيا إلى عملاق عن طريق الفكر، بينما تحول العملاق بدنيا، عن طريق الفكر أيضا إلى قزم ضئيل الحجم! حجاج بوخضور

مشاركة :