المواجهة بين الشريعة والقانون (2 ـــ 3)

  • 3/28/2017
  • 00:00
  • 44
  • 0
  • 0
news-picture

إن عصر التدوين، الذي بدأ في القرن الثاني للهجرة وحتى القرن الرابع منها، قد ترك لنا تراثا فكريا عظيما، لأنه شهد انطلاقة الفكر الإسلامي في وضع الحلول لما استجد من أمور الحياة، ولو لم يقفل باب الاجتهاد في القرن الرابع للهجرة، واستمر مقفولا طوال ألف عام، لوجدنا بين أيدينا معينا لا ينضب من المبادئ الشرعية، تعالج كل صغيرة وكبيرة في العصر الحالي، ولما كان هنالك ما يطلق عليه اليوم حداثة الفكر الإسلامي، بل لقلنا بامتداد الفكر الإسلامي. لأن النص القانوني لا يمكن أن يبتدع من فراغ، فكل نص قانوني هو عبارة عن حصيلة تجارب للأمم يتطور بتطورها مع مستجدات حياتها، كحصيلة لسلسلة من أعمال العقل، حلقاته يكمل بعضها بعضا. ولما كانت الشريعة الإسلامية (القرآن والسنة) نصوصها خالدة لا تتغير، وأحداث الحياة متغيرة، فقد وجدت إلى جانبها وسائل عقلية تم التواضع عليها لتوسيع أحكام النصوص والعمل على ملاءمتها لكل زمان ومكان، وهذه الوسائل هي «رعاية المصالح المرسلة، وقاعدة العادة محكمة، وقاعدة سد الذرائع، وقاعدة المشقة تجلب التيسير، وقاعدة ارتكاب أخف الضررين، وقاعدة الضرر يزال شرعا». وقد سئل عمر بن عبدالعزيز عن كيفية القضاء بين الناس، فقال: «إن رأس القضاء اتباع ما في كتاب الله، ثم القضاء بسنة رسوله، ثم بحكم أئمة الهدى، ثم استشارة ذوي العلم والرأي». ولو لم يقفل باب الاجتهاد في القرن الرابع للهجرة، واستمر العطاء الفكري للفقهاء والمسلمين طوال الألف عام التي مضت، لكانت نظرتنا اليوم إلى ما نطلق عليه بالقوانين الأوروبية مختلفة تماما، ولكانت بين أيدينا مبادئ شرعية ونصوص قانونية أكثر تقدمية، وملائمة للعصر الحالي ما يسميه البعض بالقوانين العلمانية، لأنه عندما أقفل باب الاجتهاد نشطت الترجمة في أوروبا، ونقلت التراث الإسلامي إليها، وتأثرت به قوانينها، وكانت أصلا من أصول تشريعاتها، لا سيما القانون التجاري لما كان للمسلمين من باع طويلة في التجارة، ومن أشهر أولئك المترجمين عن العربية البابا سلفستروس (جلبرت)، والإنكليزي أدلرأوف باث، والإيطالي جيرارد أف كريمونا، والأسباني فيلانوفا، وغيرهم كثيرون. إن التراث الإسلامي بسماحته ومرونته فيه الكثير مما يدل على ذلك النمط الفكري، حتى أن بعض خلفاء المسلمين كثيرا ما غلبوا المصلحة على النص، ومن ذلك ما فعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مع المؤلفة قلوبهم، هؤلاء الذين كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعطيهم من الصدقات، عملاً بقوله تعالى: «إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم..»، وهكذا كان يفعل من بعده أبو بكر الصديق. ولكن عندما تولى عمر بن الخطاب امتنع عن إعطائهم، وقال عنهم إن الله قد أعز الإسلام وأغنى عنهم. ولم يقل أحد ولن يقول إن هذا التصرف من جانب عمر كان فيه خروج على أحكام الشرع الإسلامي، عندما عطّل العمل بذلك النص. وكذلك الأمر عندما أوقف عمر أعمال حد قطع يد السارق في عام الرمادة، لتخلف شروطها، وهي الوفرة الاقتصادية، وهي شروط اجتماعية رأى أنه يجب أن تتوافر لإعمال حد القطع. وكان رأيه هذا قاطعا واضحا، عندما سأل أحد ولاته: ماذا تفعل لو جاءوك بسارق؟ قال أقطع يده. قال عمر إذا لو جاءوني بجائع لقطع عمر يدك. إن الله قد خلق الأيدي لتعمل فأشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية.(يتبع) مصطفى الصراف

مشاركة :