النحل باب واسع وبحر لجي في كل ما كتب وروي باللغة العربية من شعر، ونثر، وصنوف الأدب، والتاريخ، والسير، والتفاسير -ولفظ النحل يكاد يختص بالشعر العربي فقط، وهو تأليف شعر ونسبته إلى شاعر مشهور- أو نسبة القول إلى غير قائله أو القائل إلى غير قوله... أو هو وضع أشعار على ألسنة أناس لم يقولوها... ويسمى الشعر في هذه الحالة منحولاً، ويسمى واضعه نحالاً -والنحل غير اللحن.. أما اللحن، فهو الخطأ النحوي أو إمالة القول عن معناه- وكانت تلك وما زالت صفة المنافقين الذين قال الله عنهم: (... وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ...)، «سورة محمد: الآية 30». وفي علم الحديث، يتغير لفظ النحل إلى لفظ الوضع، فيقال: إن الحديث موضوع، ويسمى بعض الذين ترد أسماؤهم في سند الحديث وضاعين... وفي التاريخ يُقال بدلاً من النحل والوضع -تزوير أو تزييف التاريخ، وفي الصحافة يقال «فبركة»- أي اختلاق ونحل ووضع وتزوير أخبار، أو وقائع بعينها، أو بترها لتوافق هوى في نفس الصحفي، أو الصحيفة، أو سياستها التحريرية، أو لخدمة مواقف معينة لجهاز استخبارات، أو لدولة ما.. وفي الإعلام المرئي والمواقع الإخبارية يصبح اللفظ «تسريبات» -وتعتمد هذه التسريبات على اللعب في الصور والأصوات أو اجتزاء وبتر الأقوال.. أو تركيب صور على أصوات أو أصوات على صور. والمصطلح الأشمل الذي يجمع كل هذه الألفاظ هو الكذب حتى إن الكذب لم يعد فقط مجرد رذيلة، بل صار أيضاً حرفة، وصناعة، ومهنة، ومصدر رزق... وعبقرية المرء وفضائله لا تقاس الآن بأنه يقول الصدق، بل تقاس بقدرته على أن يجعل الآخرين يصدقون أكاذيبه -أو ما أسميه عبقرية الكذب- وهذا الصنف من البشر متوافر جداً في أمتنا العربية منذ زمن طويل -صنف النحالين، واللحانين، والمفبركين، والمزورين، والوضاعين، والمسربين... ولحسن حظ هذا الصنف من البشر أنه أصبح فاشياً وسائداً وتصدر المشاهد كلها، لأن مناعة العرب الفكرية والذهنية والعقلية ضعيفة أو منهارة -وانهيار المناعة هو الذي يجعل الناس يعرفون الحق بالرجال ولا يعرفون الرجال بالحق- كما قال الإمام علي كرم الله وجهه: «يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال».. فالعرب يعرفون الحق بالرجال.. أي أن المهم عندهم من الذي قال -وليس ما الذي قيل- المهم عندهم الكاتب وليس المكتوب -فما دام فلان قال ذلك، فقوله حق، وما دام فلان كتب ذلك، فقد كتب الحق- والعمل والحكم في هذه الحالة يكونان للأهواء لا للعقول والقلوب.. وهوى العربي دوماً مع الرافض، والمخالف، والمعارض، والسباب، والشتام، والطعان، واللعان، وإنْ كذب -وضد الموافق، والمتوافق، والموضوعي، والموالي، والعف اللسان، وإنْ صدق- لذلك يقال عن المعتدلين والمتسامحين والموضوعيين علماء السلطان أو السلطة، ويقال عن الإرهابيين والمتطرفين ودعاة الفتنة «علماء الحق» والسُنة والقرآن.. الصادق الشجاع هو الرافض والمتطرف والسباب اللعان -والكذاب المنافق هو الموالي والمعتدل والهادئ والموضوعي- هكذا بلا تحفظات... لذلك تلقى مواقع وصفحات السب والقذف، والتشدد، والإرهاب، والرفض إقبالاً منقطع النظير من جانب المتصفحين العرب... بينما لا تلقى صفحات الموضوعية والتعقل والتسامح أي إقبال -لذلك يمكنك الحكم على العرب وأنت مرتاح الضمير أنهم قوم متطرفون ومتعصبون، وأن العرب اثنان -أحدهما إرهابي والآخر مشروع إرهابي -منهم إرهابي ومنهم من ينتظر. وقد علمتني كثرة النحالين، واللحانين، والوضاعين، والمفبركين، والمسربين، والمزورين في أمتنا أن اقرأ كل ما يكتب بالعربية بحذر وريبة وتوجس -وأن أقلب المبدأ القانوني الشهير «المتهم بريء حتى تثبت إدانته» ليصبح «إن المتهم مُدان حتى تثبت براءته»، وغالباً يثبت عندي أنه مدان فعلاً... خصوصاً من يكتبون التاريخ -فالتاريخ العربي كله غلبت على من كتبوه الأهواء والولاءات -وخسفوا الأرض بمن يكرهون ويعادون، ورفعوا إلى النجوم من يوالون ويحبون -وكتاب التاريخ العربي ظلم عظماء ووضعهم وأنصف نكرات ورفعهم، وأجرى الشر على ألسنة لا تقول إلا خيراً، وأجرى الخير على ألسنة لا تقول إلا شراً. وعندما تقرأ كتاب التاريخ العربي، خصوصاً ما يتعلق منه بالفترة من اندلاع الفتنة الكبرى وحتى اليوم، لا نجد فيه إلا النحل والوضع والتحريف والتخريف -ولا نكاد نجد حقيقة واحدة بين الأكاذيب والأهواء والقصص المختلقة، بل والشخصيات الوهمية الخيالية، مثل المدعو عبد الله بن سبأ الذي نسب إليه كل أو جل مؤرخي الفتنة أنه سبب كل الكوارث، وأنه وراء المؤامرة التي وقعت في عضد الدولة الإسلامية، وما زالت الفتنة مشتعلة حتى الآن، وكأن ما يجري اليوم من أنهار الدم هو استجابة لقول سيدنا عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وهو يواجه الموت قتلاً، حيث قال: «والله لو سللتم سيوفكم اليوم فلن تغمدوها أبداً». وأما الشخصية الوهمية المسماة عبد الله بن سبأ، فلم يقل عنه مؤرخو الفتنة شيئاً سوى أنه يهودي من أهل صنعاء، أمه سوداء، وأسلم أيام عثمان، ثم تنقل في الحجاز، ثم بالبصرة، ثم بالكوفة، ثم بالشام يريد إضلال الناس، فلم يقدر منهم على ذلك، فأخرجه أهل الشام، فأتى مصر، فأقام فيها، وقال لأهل مصر: «العجب ممن يصدق أن عيسى يرجع ويكذب أن محمداً يرجع وقد قال الله عز وجل: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىَ مَعَادٍ...)، «سورة القصص: الآية 85»، محمد أحق بالرجوع من عيسى -فوضع الرجعة وقبلها الناس منه -وقال لهم إن لكل نبي وصياً وعلي وصي محمد وأن عثمان أخذها بغير حق فابدأوا بالطعن على أمرائكم! وبث دعاته وكاتب الأمصار! وعندما تقرأ ذلك تشعر بأن عبدالله بن سبأ هذا كان يتحرك وينتقل بين الأمصار بطائرة خاصة أو كانت له صفحة على «فيس بوك» يدعو من خلالها الناس ويكاتبهم! ولم يقل أحد إن العرب منذ قديم الزمن يتآمرون على أنفسهم، ثم يخترعون متآمرين عليهم من خيالهم ويحملون هؤلاء المتآمرين الوهميين أوزارهم... ولم يقل أحد ما مصير عبد الله بن سبأ هذا الذي قاد المؤامرة ضد عثمان، وهل تركه بنو أمية وكل من لبسوا قميص عثمان وناصبوا علياً بن أبي طالب العداء؟... وهكذا ترى تاريخ العرب مليئاً بالأباطيل والشخصيات الوهمية، وتظل حائراً بين الباطل المنحول والحق المسحول! *كاتب صحفي
مشاركة :