استطاع الرئيس بشار الأسد بعد 6 سنوات من الحرب أن يسجّل مكاسب كبيرة على الأرض، لكن ذلك لا يعني أن الحرب قد قاربت نهايتها، وأن بلاده التي كان يفاخر باستقرارها وقوّة نظامها لم تعد مجموعة من الإمارات المسلحة. وفي الوقت الذي يعتقد بعض المراقبين المستقلين أن الصراع دخل مرحلته النهائية، ويذهب بعضهم إلى أن في قدرة النظام أن يستعيد كل المناطق التي يسيطر عليها الثوار، وتُجمِع الآراء على أن تدعيم وقف إطلاق النار الذي أُعلن في كانون الأول (ديسمبر) الماضي سيؤدي إلى خفض مستويات القتل والتدمير والتهجير، يكرَّس الوضع الميداني المتفجِّر على الأرض. كانت العقدة الكأداء في المفاوضات التي قادتها الأمم المتحدة منذ خمس سنوات، وفي المفاوضات الثنائية بين الولايات المتحدة وروسيا، وأخيراً في المفاوضات الروسية– التركية، تتركّز على مستقبل بشار الأسد في الحكم. ويبدو أنهم توصّلوا إلى قناعة بأن من الأفضل بقاءه في الحكم في الوقت الراهن على الأقل. يقول روبرت فورد السفير الأميركي السابق في سورية، والذي استقال بسبب تقاعس إدارة أوباما عن القيام بالخطوات اللازمة لإسقاط الأسد: «لنكن واقعيين... الأسد لن يتخلى عن السلطة». ويضيف: «بعد سقوط حلب لم يبقَ هناك إمكان لاقتلاعه، وهذه هي النتيجة الطبيعية للنصر العسكري الذي حقّقه بالتعاون مع روسيا». في آذار (مارس) 2011، أسقطت ثورة جماهير الربيع العربي الحكّام في تونس ومصر وليبيا واليمن، لكنها فشلت في إسقاط حكم الأسد في سورية، والذي ردّ على التظاهر باستعمال كامل القدرات الاستخبارية والعسكرية التي يملكها، بما فيها السلاح الكيماوي. اعتقد الرئيس أوباما ومعه قادة أوروبا، أن الأسد سيسقط قريباً، لكنّه تمسّك بالسلطة، ودعمته في ذلك حليفته إيران، و «حزب الله»، ومجموعات أخرى من الميليشيات الشيعية التي استقدمتها إيران من العراق وأفغانستان وباكستان. كان من نتائج الحرب حتى الآن سقوط نصف مليون قتيل وتهجير نصف السكان، وتسبّب ذلك بأكبر مشكلة تهجير شهدها العالم، كما مورست الحرب بأعلى مستويات الوحشية ضد المدنيين العزّل. دعت القوى الدولية والإقليمية مختلف القوى المشاركة في الحرب السورية إلى إعطاء الأولوية لقتال «الدولة الإسلامية» وتحرير الرقّة، في الوقت الذي ما زالت هناك 12 حرباً مختلفة تُخاض على الأرض السورية. تخلّى معظم الدول الداعمة للمعارضة عن الثورة، في الوقت الذي يلفّ مواقف الدول الكبرى، خصوصاً أميركا وروسيا وتركيا، الغموض سياسياً وميدانياً. وسيشجع هذا الغموض الأسدَ ومعه إيران على السعي إلى تحقيق المزيد من المكاسب على الأرض. تمكن مقارنة الوضع السوري الآن بالوضع الذي كان قائماً في لبنان بين عامي 1975 و1989، حين جرى تقسيم البلاد إلى مقاطعات تسيطر عليها القوى المتصارعة، مع اشتداد الصراع بين الفينة والأخرى. كما يمكن تشبيهه بالعراق بعد حرب الخليج الأولى، حين بقي صدام في السلطة بعد حرب تحرير الكويت لكنها كانت سلطة مشكوكاً بشرعيتها، وفي ظل أوضاع اقتصادية سيئة للغاية. لا يبدو في الأفق أي سيناريو عملي لإنهاء حكم الأسد في ظل استمرار الدعم الروسي والإيراني، كما لا تتوافر أي نيّة لتخلي أيٍّ منهما عنه أو الطلب منه التخلي عن السلطة. ولكن، على رغم كل ذلك يمكن تصور نهاية دراماتيكية للأسد في المستقبل. في هذا الوقت، يرى الأسد أن السنوات الصعبة قد مرّت (2012 و2013) وهو متمسك الآن بالحكم أكثر من أي وقت مضى. في ظل هذه الرؤية المستقبلية لوضع الأسد، لا يبدو في الأفق إمكان لحل معضلة ملايين اللاجئين السوريين، فمن الطبيعي أن لا يجرؤ هؤلاء على العودة إلى ديارهم الخاضعة لسلطة الأسد واستخباراته. هناك حالة من التقاء المصالح بين أميركا وروسيا في الشمال السوري، وإن إرسال قوات أميركية إلى منبج لمنع صدام بين الجيش الحر المدعوم من تركيا مع قوات سورية الديموقراطية، قابله دخول قوات روسية إلى منطقة عفرين، كما سمح بتقدُّم قوات الأسد في الريف الشرقي لمدينة حلب. ويفتح هذا الالتقاء في المصالح المجال أمام قوات الأسد لإعادة احتلال محافظة إدلب قرية تلو الأخرى. لكن تناقص القوى البشرية في جيش النظام، وانتشاره على مناطق واســـعة سيشكل نقطة الضعف الأساســية في خططه لاستعادة السيطرة على مناطق جديدة. وتمكن عرقلة طموحات الأسد بتغيير المعارضة المسلحة خططها وتكتيكها في مواجهة النظام، وهذا ما أظهرته الهجمات الجارية الآن في العاصمة دمشق والغوطة الشرقية، بالإضافة إلى التقدُّم المحسوس الذي سجّلته المعارضة في ريف مدينة حماه الشمالي، وسيتطلب هذا الوضع الناتج من هجمات المعارضة مزيداً من التدخُّل الإيراني والروسي. يدرك بشار الأسد أنه لا يملك القدرات لإعادة الإمساك بالوضع «بقبضة فولاذية» على غرار ما كان يفعل في الماضي، وسيفرض عليه هذا الوضع القبول بحكم غير مركزي، وإعطاء نوع من الحكم الذاتي لبعض المناطق، وسيعني ذلك فتح الباب لحكم فيديرالي أو كونفيديرالي، كما سيؤدي ذلك إلى تغيير في الحدود القانونية للجمهورية السورية، خصوصاً إذا قررت تركيا وحلفاؤها من الجيش الحر الاحتفاظ باستقلال المناطق التي يسيطرون عليها في الشمال. قبول الدول الغربية بالتغييرات الحاصلة على الأرض، وبالتالي التراجع عن المطالبة برحيل الأسد وإقامة حكم بديل، سيصبّ في مصلحة الأسد في المرحلة الراهنة، لكن كرههم له ومقاطعتهم الاقتصادية القاسية لسورية طالما بقيت تحت سلطته ستكون لهما تداعيات سياسية وأمنية قاسية ومؤثرة، وسيكون من الصعب العودة لقبوله كعضو فاعل في المجتمع الدولي. تعقيدات الوضع الدولي والإقليمي، وأولوية الحرب على «الدولة الإسلامية» بالنسبة إلى اللاعبين الأساسيين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، التي تواجه أزمة خيارات لشن هذه الحرب بسبب وجود مشكلات وتناقضات بين أقرب حلفائها، وخصوصاً بين تركيا وقوات سوريا الديموقراطية، تؤشر بأن لا أمل في تحقيق أي اختراق باتجاه مخارج للأزمة السورية من خلال مباحثات جنيف. وفي السياق ذاته، لا يمكن أن نتجاهل وجود خطة عسكرية إسرائيلية انتقائية للتدخل في الحرب السورية، وهي تستهدف «حزب الله» ومعه الوجود العسكري الإيراني. وتشير التطورات إلى أن إسرائيل ستكون جاهزة لشن حرب استباقية إذا شعرت بمخاطر حشد قوات الحرس الثوري الإيراني و «حزب الله» على مقربة من خط الفصل في الجولان. لا نخاطر إذا قلنا إن مؤتمر جنيف الخامس لن يكون أفضل من المؤتمرات التي سبقته، حيث لا يمكن أن نتوقّع حصول أي نتائج إيجابية لتخفيف العنف بغية التوصّل إلى الحل السلمي المنشود، في الوقت الذي تتحدث المصادر الإسرائيلية عن إمكان اندلاع حرب جديدة عبر حدود الجولان ولبنان ضد إيران و«حزب الله»، والتي ستؤدّي إلى خلط الأوراق في التحوّلات الجيواستراتيجية التي تشهدها سورية والمنطقة. * باحث لبناني في الشؤون الاستراتيجية
مشاركة :