"متلازمة اللامبالاة": تروما خطيرة تصيب الأطفال المهددين بالترحيل وتُحيّر العلماء

  • 3/29/2017
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

هي الحروب الطويلة. هي الهجرة القسرية وطريق التشرد الذي تخور فيه القوى وتتلاشى الإرادة. هي أرض اللجوء التي تعد قاصديها براحة بعد ألم وبأمان بعد خوف، فتخونهم فيها الظروف وتعاجلهم بضربات قاضية. هي كل أنواع "التروما" (الأزمات النفسية) التي وثقها الطب وحدد أشكالها بعد صدمة قوية أو خسارة فادحة أو تجربة مرعبة... أو ببساطة بعد رؤية رأس مقطوع أو جسد متعفن. هي الحروب الطويلة. لا تنفك تمدنا بأنواع جديدة من التروما، ومن بينها "متلازمة اللامبالاة/ التخلي" التي ظهرت بشكل غامض بين لاجئي السويد المهددين بالترحيل، وتحديداً الأطفال منهم. بعد حوالي العامين على بدء النقاش الجدي حول هذه المتلازمة الجديدة، التي اصطُلح على تسميتها باللغة السويدية "Uppgivenhetssyndrom" أو بما معناه بالإنكليزية "Resignation syndrome"، ما زال العلماء حائرين أمام مسبباتها العلمية الدقيقة، ولماذا ظهرت في السويد حصراً، وما أسباب إصابة الأطفال اللاجئين وحدهم بها؟حياة تتبدد قبل أن تبدأ تسبب هذه الحالة النفسية للمصاب بها شبه شلل، يتحول أحياناً إلى شلل تام، يصحبه انعدام في القدرة على فعل أي شيء أو الاكتراث بشؤون الحياة. وقد تؤدي هذه الحالة إلى الموت ما لم يجر الاعتناء بها طبياً، إذ يعجز المصاب عن الحركة أو تناول الطعام والشراب، فيحصل على الغذاء عن طريق أنبوب يوضع في أنفه. كما يعجز عن الكلام مع الآخرين، ولا يستجيب للمحفزات الطبية المؤلمة التي يخضع لها. بدأ التداول بمصطلح "متلازمة التخلي" في السويد في العام 2014، ومنذ ذلك الوقت سجلت مئات الحالات في صفوف الأطفال والمراهقين اللاجئين، بين عمر 7 و19 عاماً. وحول هذه الظاهرة، نشر موقع "BioEdge" تقريراً وصفها فيه بأنها "من القصص الطبية الأكثر غرابة التي سجلها العام الماضي". بحسب التقرير، العالم مليء بالأزمات النفسية التي أنتجتها وتنتجها الحروب في الشرق الأوسط وأفغانستان وأوروبا الشرقية وغيرها من المناطق، والتي خلفت أنواعاً مختلفة من التروما بلغ عدد ضحاياها حوالي الخمسين مليوناً. مع ذلك تنفرد السويد بتلك الظاهرة "الإكزوتيكية"، والتي تصيب تحديداً الأطفال اللاجئين مع ذويهم، وليس الأطفال الذين وصلوا إلى البلاد بمفردهم. من جهته، كتب أستاذ الفلسفة بار سيغيردال حول الظاهرة، لموقع "Ethics blog"، يقول إن مئات الحالات التي تم تسجيلها منذ العام 2014 دفعت مجلس الخدمات الاجتماعية السويدي لأن يدرج هذه المتلازمة في قاموسه الطبي. وقد أعلن الأخير لاحقاً أن حوالي ستين طفلاً قد خضعوا للعلاج الطبي من هذه المتلازمة خلال العام 2015. من بين المصابين بهذه المتلازمة الطفل الروسي اللاجئ جورجي الذي وثقت قصته المؤلمة مجلة "نيويوركر" الأمريكية.أقوال جاهزة شاركغردمتلازمة غريبة ما زال العلماء حائرين أمام مسبباتها ولماذا ظهرت في السويد حصراً وتصيب الأطفال اللاجئين وحدهم شاركغردمتلازمة التخلي أو متلازمة اللامبالاة: تروما محيّرة ومؤلمة تصيب الأطفال اللاجئين وتسحب منهم كل رغبة بالحياةجورجي الجميل يغرق وصل جورجي مع عائلته إلى السويد عندما كان في الخامسة من عمره، وذلك هرباً من التهديد الذي تلقاه والده بالقتل في منطقته المحاذية للحدود مع جورجيا على خلفية مشكلة دينية. يصف طبيبه قائلاً "جورجي كان الأكثر سويدية (نسبة إلى السويد) بين أفراد عائلته، بينما وصفه زملاؤه في عيده الثالث عشر بأنه دينامو الصف، وهو مليء بالطاقة والفرح والطيبة وعشق كرة القدم وغير ذلك من الصفات الحسنة. في العام 2014، وبعد سنوات من الحياة السرية تقدمت العائلة مجدداً بطلب لجوء، وأرفقته بما يعززه من شهادات طبية واجتماعية حول صحة جورجي وأخواته النفسية في حال تم رفض طلبهم. مع ذلك، فقد تلقت العائلة في العام 2015، إشعاراً برفض الطلب. كان مكتوباً باللغة السويدية التي لا يتكلمها الوالدان، فكان أن قرأ جورجي الإشعار لهم. حاول بعد ذلك التغاضي عن الأمر، ولكن بعد فترة علم بترحيل صديقه الأفغاني - الذي كان يشاركه لعب كرة القدم - مع عائلته "كما لو كانوا مجرمين". أصبح جورجي متجهماً طوال الوقت ويميل للانعزال، ثم توقف عن التكلم بالروسية مع أهله. ومن خلال أخيه، صاحب التسعة سنوات والذي لعب دور المترجم، اتهم جورجي والديه بعدم التكلم بالسويدية، وحمّلهما مسؤولية عدم الاندماج في المجتمع وبالتالي رفض طلب اللجوء. في أواخر العام 2015، تلقت العائلة إشعاراً نهائياً بالترحيل، قرأه جورجي بصمت، رماه أرضاً وصعد إلى غرفته، تمدد على سريره. وهنا بدأت دوامة التخلي. شعر جورجي كما لو أن جسده أصبح سائلاً بالكامل، شعر بأطرافه هشة من شدة الليونة، كل ما كان يريده هو أن يغلق عينيه، شعر بأن بلع الطعام أصبح مهمة شديدة الصعوبة لا قدرة لديه عليها، داهمه ضغط عميق في دماغه وأذنيه. في اليوم الثاني رفض مغادرة السرير أو الأكل، حتى نقاط الصودا القليلة التي حاول شقيقه مده بها، سالت من بين شفتيه. تروي قصة جورجي الطبيبة التي تسعى وراء تلك الحالات لتعالجها بالمجان، وتحكي كيف نصحت أهله بتطبيبه، وكيف بكى أصدقاءه في الصف عندما علموا بحالة صديقهم النشيط الممتلئ فرحاً. واظب أساتذة جورجي على زيارته، وقراءة الروايات له، لكن من دون أي رد فعل منه، بينما كان شقيقه يدخل في دوامة من القلق ويظن أن الشرطة ستأتي لاعتقاله في أي لحظة. تم تأجيل الترحيل لأن جورجي كان يعتمد على أنبوب التغذية للاستمرار في العيش، بينما وصف الطبيب تلك الحالة بأنها أشبه بـ"الكوما التي يعتمدها الدماغ كوسيلة للحماية. الأطفال المرضى أشبه بشخصية بياض الثلج، لقد وقعوا ببساطة خارج هذا العالم". تمدد على سريره. وهنا بدأت دوامة التخلي. شعر كما لو أن جسده أصبح سائلاً بالكامل، شعر بأطرافه هشة من شدة الليونة شاركغرد برأي الباحثين الذين تابعوا القضية، لا علاج لهذه الحالة المتمثلة بانعدام أي رغبة بالحياة سوى الحصول على إذن بالإقامة الدائمة. وإن افتقر له كثر، فقد حصل جورجي عليه بعدما أقرت التقارير الطبية الخطر على حياته. يحتاج المرضى عادة إلى حوالي السنة للتعافي مجدداً، لكن جورجي أظهر سرعة في التماثل للشفاء، وبدأ يرتاد المدرسة بينما يحاول رفاقه عدم التطرق لوضعه السابق، كما يحاول هو ألا يفعل. يتذكر جورجي تفاصيل كثيرة عن مرحلة مرضه، يشعر أنه خلال خمسة أشهر كان غارقاً في مياه عميقة، معتقداً أن أدنى حركة ستجعل المياه تقتله. في البداية كل ما أراده هو البقاء ليوم واحد في الفراش وعدم الذهاب إلى المدرسة طالما أن لا مستقبل أمامه. لكنه، رويداً رويداً، بدأ يشعر أن جسمه يتحول إلى سائل وينزل عميقاً في ماء دون قعر واضح. ومن التهيؤات التي تصيب المرضى كذلك، هي أن أي حركة يأتون بها ستغير موازين الكون وتحدث أزمة، فيمتنعون عن الحراك.أكمل القراءة السويد، بلد الأمان؟ وإن خضعت هذه المتلازمة للدراسة وحملت اسمها قبل عامين فقط، إلا أن لها جذوراً ممتدة إلى حوالي العام 2000، عندما بدأ يتوافد إلى المستشفيات عدد كبير من الأطفال كان أهلهم يعتقدون أنهم على شفير الموت، من دون أن يوجد أسباب طبية جسدية لذلك. في العام 2005، سجلت السلطات السويدية أكثر من 400 حالة من هذا النوع. وللمفارقة، يذكر هنا أن دولة السويد الحديثة بنيت على مبدأ أساسي هو توفير الأمان والتقليل من المخاطر التي تؤثر على حياة الفرد، وقد قال وزير الشؤون الاجتماعية السويدي في العام 1967 "لا شيء جيد يمكن أن ننتظره من أفراد يعيشون انعدام الأمان". مع تشديد السويد قيودها بخصوص إعطاء اللجوء، ازدادت هذه الظاهرة بين الأطفال والمراهقين، وقد تابعها بشكل أساسي الباحث كارل سالين مع عدد من الباحثين الآخرين في دراسة معمقة، حاولوا فيها الإجابة عن سبب ظهورها في السويد ولدى الأطفال مع عائلاتهم. كما عن تداخلها مع مرض الكتاتونيا ومع أزمات اللجوء الطويلة والاندماج. قبل الدخول في نظرية سالين، يرى بعض الباحثين أن الأمر عائد إلى حالة الصدمة التي تصحب منسوب أمل مرتفع، كما يرون أنها انعكاس لقلق الأهل، والأم تحديداً، لدى الأطفال. لكن ذلك لا يفسر لماذا السويد تحديداً. حالة أشبه بالكوما يعتمدها الدماغ كوسيلة للحماية. الأطفال المرضى أشبه بشخصية بياض الثلج، وقعوا ببساطة خارج هذا العالم… متلازمة تصيب اللاجئين المهددين بالترحيل شاركغرد في المقابل، يفسر سالين بأن هذه الظاهرة هي نوع من مرض الكتاتونيا الذي يعقب صدمة كبيرة، والذي قد يصيب كذلك أناس يعيشون في ظروف ثقافية واجتماعية محددة. وهكذا يبقى ضرورياً دراسة التفاصيل الثقافية والاجتماعية السويدية التي تجعل الأطفال اللاجئين عرضة لذلك. بموازاة ذلك، يرى باحثون أن الكلام والبحث في هذه الظاهرة يساعد في ضبطها، بينما يرى آخرون أنه يرمي بآخرين في أحضانها. فالمرض في مطلق أحواله نفسي بحت. هكذا يبقى التخلي عن العيش بهذه الطريقة خطراً محدقاً بأطفال كثر طالما العالم على حاله، بكل ما فيه من وحشية. هي الحروب الطويلة.اقرأ أيضاً5 علامات تدلّ أنكم وقعتم في حب معالجكم النفسي7 علامات تدل على أن وقت الانفصال عن الشريك قد حانلماذا من الصحي أن نبكي في مثل هذه الحالات "السخيفة"؟ هيفاء زعيتر صحافية لبنانية. عملت في صحيفة السفير، ثم مراسلة لقناة الجديد اللبنانية، وقناة فرانس24 الناطقة باللغة العربية. كلمات مفتاحية العالم اللاجئون التعليقات

مشاركة :