منذ أن أعلنت رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي عن إطلاق المادة 50 من معاهدة لشبونة والمتعلقة بالخروج من الاتحاد الأوروبي والتساؤلات تزداد حول طبيعة المستقبل الذي ينتظر كلا الطرفين. فالاتحاد الاوروبي من أكبر الشركاء التجاريين للمملكة المتحدة ومن أكبر الأسواق التي تتعامل معها. لذلك فإنه من الطبيعي أن يكون الأمر مربكاً بالنسبة للمستثمرين والشركات والأفراد الذين يطرحون أكثر من علامة استفهام. حاولت السيدة ماي من خلال الخطاب الخاص بإطلاق إجراءات الخروج من الاتحاد الأوروبي أن ترسم بعضاً من ملامح العلاقة التي تطمح إليها. فالمملكة المتحدة ترغب بإبرام شراكة اقتصادية وأمنية مع الاتحاد الأوروبي ضمن اتفاق للتجارة الحرة ولكن وفق عدد من المبادئ وفي مقدمتها مصالح المواطنين والتفهم الكامل للموقف الأوروبي من الحريات الأربعة الخاصة بالأفراد ورؤوس الأموال والخدمات والسلع. ولتحقيق ذلك فإنه من الضروري بحسب السيدة ماي أن يكون هناك تفهم مشترك يقوم على أساس التعاون الصادق والبناء بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. وهذا يعني بالضرورة العمل المشترك لتقليل العوائق والعمل قدر الإمكان لتجاوز حالة عدم اليقين بالنسبة للمستثمرين والشركات والافراد. ولتحقيق ذلك فقد شددت رئيسة الوزراء على التوصل لاتفاق مبكر يضمن تسوية عادلة لحقوق المملكة المتحدة والتزاماتها. ما يعني أن العامل الزمني مهم جداً للمملكة المتحدة التي ترغب بالإسراع في البدء بالمفاوضات بين الطرفين وأن يتم ذلك في وقت مبكر. إلا أن هذا يتعارض مع الموقف الأوروبي الذي قد يضع المستحقات الأوروبية على المملكة المتحدة والبالغة قرابة 60 مليار يورو كحجر عثرة قبل البدء في أية مفاوضات ممكنة. أما بالنسبة لبعض القطاعات الحيوية في الاقتصاد كقطاعي الخدمات المالية والصناعة فقد أكدت السيدة ماي حرصها على الحفاظ على مناخ تجاري حر وعادل وأن يتم تطوير الهياكل القانونية الحالية لتتناسب مع المرحلة المقبلة. وهنا تلمح رئيسة الوزراء إلى القضايا المتعلقة بجواز المرور المالي الذي يطال 8 آلاف شركة خدمات مالية و5 آلاف شركة أخرى لها اتفاقات مبرمة مع الحكومة البريطانية. ويشكل قطاع الخدمات المالية نحو 7% من القوة العاملة في المملكة المتحدة وينتج 12% من مجمل الناتج المحلي. كما أنه يساهم في تحقيق أرباح سنوية بمقدار 240 مليار دولار وضرائب تقدر بـ 80 مليار دولار. وفي حال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فقد تخسر بريطانيا من 30 - 232 الف وظيفة في القطاع المالي وهو ما لا ترغب الحكومة البريطانية بالوصول إليه. كما لمحت السيدة ماي في خطابها للاتحاد الأوروبي إلى صناعة السيارات التي يصدر منها 57% إلى الاتحاد الأوروبي ولا ترغب بأن يكون هناك أي تعرفة جمركية أو رسوم إضافية عليها تفرض من قبل الاتحاد الأوروبي ما يعرقل عملية التصدير ويهدد بنقل الشركات المصنعة لأعمالها لخارج المملكة المتحدة. ركز الخطاب على أهمية التوصل لاتفاق حول هذه المبادئ لإبرام اتفاق شامل خلال الفترة الزمنية المحددة بعامين على الرغم من تصريح السيدة ماي بصعوبة ذلك الأمر. وفي حال لم يتم الاتفاق فإن التبادل التجاري سيتم عبر شروط منظمة التجارة الدولية ما يعني فرض التعرفة الجمركية على صادرات الجانبين. فالتجار البريطانيون سيواجهون تعرفة جمركية بنسبة 4.5% لا تقل عن 5.2 مليار جنيه استرليني في حين يواجه مصدرو الاتحاد الأوروبي إلى المملكة المتحدة تعرفة تصل تكلفتها إلى 12.9 مليار جنيه استرليني. وبالتأكيد فإن عملية التفاوض لن تكون سهلة خاصة مع وجود أكثر من قطاع حيوي وما يشمل ذلك من نزاعات وصعوبات قانونية وتقنية تحتاج لفترة زمنية أو مرحلة انتقالية لتطبيق الحلول المتعلقة بها. ولذلك فقد ذكرت رئيسة الحكومة البريطانية في خطابها للاتحاد الأوروبي أنها ستقدم بعض المقترحات التفصيلية بهذا الخصوص لتحقيق تعاون واسع وعميق وأكثر ديناميكية. ورقة الأمن لم تتوان ماي عن التركيز على المشتركات مع الاتحاد الأوروبي كحرصها على تطوير وحماية القيم الأوروبية المشتركة قبل أن تشير في أكثر من مكان للوضع الأمني الهش الذي تمر به بلدان الاتحاد الأوروبي. وقد فهم البعض من ذلك على أنه تلويح ببعض أوراق بريطانيا للضغط على الاتحاد في المفاوضات القادمة خاصة وأن الخطاب أوضح أن التخلي عن التعاون بين الطرفين سيكون خطأً مكلفاً. بالمقابل من ذلك فقد حاولت رئيسة الوزراء تجنب أي ضغط قد يستخدمه الطرف الأوروبي خاصة فيما يتعلق بطبيعة العلاقة مع جمهورية إيرلندا. فإيرلندا هي الدولة الاوروبية الوحيدة ذات الحدود البرية مع بريطانيا بالإضافة إلى ذلك فهناك عملية سلام في شمال إيرلندا وأي خلل في هذه العلاقة سيكون له أثر سلبي على السلم الأهلي في تلك المنطقة. يبدو من خلال خطاب السيدة ماي أنها تضع خيار عدم الاتفاق كخيار أخير وفقاً لمبدأ أن عدم الاتفاق هو أفضل من الاتفاق السيئ. لذلك فالكرة اليوم باتت في الملعب الأوروبي ويتوجب على ذلك الجانب أن ينظر إلى الأمر على أنه تحقيق لمنافع متبادلة وليس مجرد ربح أو خسارة. صادق حسين الركابي
مشاركة :