إن الاستفادة من تجارب الدول المتقدمة وخبرتها وأساليب معالجتها للأخطاء والنجاحات أمر في غاية الأهمية لأية دولة تنشد التقدم والرقي على قاعدة اسأل مجرب واسأل طبيب ووفّق بين رأييهما لكي تصيب قلب الحقيقة وفي هذا الصدد يجب أن نشير إلى أنه من المؤكد أنه لا يمكن استنساخ تجارب الدول بحذافيرها لأن لكل دولة بيئتها الخاصة التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار. ولعل كلًا من التجربة اليابانية والكورية والماليزية والتايوانية وغيرها من الدول بارزة للعيان، فكل من تلك الدول خرجت من تحت أنقاض الفقر والعوز إلى آفاق الغنى والتقدم، فبعد أن كان بعضها يستجدي المساعدات أصبح يقدمها للدول الفقيرة، وإذا أخذنا الأنموذج الكوري فإننا يمكن أن نشير إلى الدراسة التي أعدها مركز الجزيرة بهذا الشأن والتي تتلخص في: إن أيسر سبل التطور هو ذلك الأسلوب الذي أخذت به دول كثيرة مثل اليابان وكوريا وتايوان وماليزيا وحتى الصين والذي يتمثل في خوض غمار معركة التنمية والتقدم من خلال التقليد والمحاكاة في البداية ثم التوطين والتطوير ثم الانطلاق إلى آفاق الابتكار والإبداع * لعبت الدولة دوراً كبيراً وإيجابياً في عملية التنمية الاقتصادية وأشار مركز الجزيرة للدراسات إلى أن التدخلات كانت ترتكز على إرادة سياسية صلبة وثابتة وتعتمد التخطيط بعيد المدى والسياسات التنموية السليمة والملائمة للواقع الكوري ليس هذا وحسب بل إن الدولة كانت ترى أن التنمية الاقتصادية أساس القوة لمواجهة الأخطار. * التعاون الوثيق بين القطاعين العام والخاص كان من أبرز الخطوات التي اعتمدتها الحكومات الكورية المتوالية وهذا ما أدى إلى توجيه الموارد إلى القطاعات التي يمكن أن تساهم بفعالية في النمو الاقتصادي. * البحث العلمي الموجه كان من أولويات اهتمام الحكومة الكورية ولهذا أصدرت ترسانة من القوانين التي تشجع على البحث العلمي ودعمت ذلك بإنشاء العديد من المكاتب، والهيئات لتنسيق البحوث وتوجيهها ولهذا الاهتمام أنفق كل من القطاع الخاص والعام بسخاء من أجل تضييق الهوة التي كانت تفصل كوريا عن الدول المتقدمة تلا ذلك الإنفاق على البحث والتطوير حيث أصبحت تنفق بسخاء أيضاً لتطوير تكنولوجيا جديدة لتحقيق المزيد من التقدم خصوصاً في مجالات تقنية المعلومات والنانو والتكنولوجيا الحيوية وذلك لتثبيت موضع قدم لها ضمن الأمم الأقوى تكنولوجياً. * الاستثمار في العامل البشري كان من أبرز انجازات التجربة الكورية حيث أثبتت تلك التجربة أن تطوير قدرات الشعوب عبر التعليم والتدريب ضروري لخلق ظروف تسمح بمواكبة التطورات والقدرة على المنافسة وتحسين الإنتاج مما ينعكس إيجاباً على التنمية والدخل والاستقرار. * استغلال الظروف الدولية من خلال الاستفادة من حليفها الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق أكبر قدر من التنمية الاقتصادية كأحد الأعمدة الرئيسة في بناء قوتها الشاملة وتحقيق استقلال سياسي واقتصادي وتكنولوجي وصناعي. ناهيك عن قبول التحدي اتجاه خصمها اللدود كوريا الشمالية التي تعاني من كل أشكال المصاعب الاقتصادية. * الشركات العملاقة شكلت الذراع التنفيذية للدولة حيث كانت الدول تحدد الاختيارات الاستراتيجية والخطط التنموية وتقوم الشركات الخاصة بالتنفيذ ولهذا استفادت تلك الشركات من المساعدات الحكومية في عملية التحول من الصناعات الثقيلة إلى الصناعات الالكترونية والصناعات المتطورة التي تحتاج إلى رأس مال كبير في القرن الحادي والعشرين. * أدركت الحكومة الكورية أهمية اليد العاملة، ولهذا راهنت على رأس المال البشري كمورد أساسي للتنمية ولهذا استثمرت بكثافة في التعليم والتدريب وذلك وفق التطورات التكنولوجية التي واكبت التحول الصناعي، هذا وقد بلغ عدد الطلبة الذين يتابعون تعليمهم في المجال التقني والعلمي ما يربو على (70) من اجمالي عدد الدارسين في كوريا. * القيادات الإدارية ذات الكفاءة والخبرة والمهنية والإبداع والنظرة المستقبلية التكاملية وعدم الخضوع للقيادة الفردية حيث لعب هؤلاء في كل من مجلس التخطيط ومكتب التنسيق ووزارتي المالية والتجارة دوراً بارزاً في صنع رؤية اقتصادية واضحة من خلال السهر على التخطيط وتحديد الأهداف وتطبيق الاستراتيجيات لحل مشاكل التنمية وفق جدول زمني محدد يهدف إلى تحويل البلد إلى قوة اقتصادية وتجارية عالمية. بهذه المميزات وغيرها مما لم يتم ذكره أصبحت كوريا الجنوبية تملك اقتصاد سوق متميز ترتيبه الخامس عشر عالمياً وفق الناتج المحلي الإجمالي والثاني عشر وفق تعادل القدرة الشرائية وهذا هو الذي أهّل كوريا لتصبح ضمن مجموعة العشرين لأكبر اقتصاديات العالم، وإذا علمنا ان كوريا قد تميزت وحققت كل تلك الإنجازات على الرغم من إنها لا تملك موارد طبيعية تقريباً وتعاني من عدد سكان كبير ومساحة صغيرة وهي سوق استهلاكية كبيرة فإنها قبلت التحدي وأصرت على التميز وعلمت من أجله نظرياً وتطبيقاً واستعانت على ذلك بأساليب التقييم والتقويم المستمرة وعدم تكرار الأخطاء وعدم الركون إلى القرار الفردي والهيمنة الفردية في العمل واستبدال ذلك بالعمل المؤسسي المنبثق من الرأي الجمعي المتبوع بالنتائج المرضية والمستحقة على أرض الواقع. نعم لقد بدأ الكوريون ومن قبلهم اليابانيون وكذلك فعل الصينيون بالتقليد ثم النقل والتوطين تلا ذلك التحوير والتطوير المدعوم بالبحث الرصين مما أدى في النهاية إلى الإبداع وتحقيق قصب السبق على من قلدوه بالأمس وهذا كله أدى إلى توطين التقنية وجعلها أحد أبرز مميزات تلك الدول والشعوب التي دخلت واستغلت وطوعت المعرفة لحفز اقتصادها بحيث أصبح اقتصاداً معرفياً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى وتطبيق. إذاً السؤال ماذا عنا ونحن المفترض بنا أن نكون الأجدر والأقدر والأنسب؟ نعم نحن الأجدر لأن ديننا وعقيدتنا وتراثنا من أهم دعائم العمل الجاد حيث إن طلب العلم يعتبر فريضة على كل مسلم ومسلمة وهذا مثبت في القرآن والسنّة من حيث الدعوة إلى التسلح بالعلم وطلبه من أجل المنعة والقوة وقبل ذلك وبعد الإيمان بالله جل جلاله. ونحن الأقدر لأن الدول الأخرى مثل اليابان وتايوان وكوريا تعتبر بلاداً فقيرة بالموارد الطبيعية ومع ذلك حققت المعجزة، أما نحن فبلادنا غنية بالموارد الطبيعية وفي مقدمتها البترول والغاز اللذان يسيران الحضارة العالمية بالإضافة إلى غنانا بالثروات الطبيعية الأخرى وبالتالي نحن اليوم أقدر من أية دولة ناهضة أخرى على الوفاء بمتطلبات التصنيع والبحث والتطوير والتوطين لجميع أنواع التكنولوجيا لأننا نملك المال ونملك العقول التي لو هيئت ووجهت التوجيه الصحيح لأبدعت والدليل تفوق عدد كبير من شبابنا وشاباتنا المبتعثين في مجالات كثيرة ناهيك عن تميزهم في مواقع العمل التي تعطيهم حقهم المادي والمعنوي بعد صقل مواهبهم بالتدريب والتشجيع المستمرين. ونحن الأنسب بحكم موقع بلادنا الوسطي بين قارات العالم القديم وتشكيلها ملتقى لجميع وسائل النقل والتجارة والاتصالات لو أحسن استغلال تلك المميزات وثم العمل على الاستفادة من تلك المميزات. إذاً مرة أخرى أين يكمن الخلل؟ مما لاشك فيه ان حكومتنا الرشيدة تبذل قصارى جهدها وتبذل من الميزانيات والمخصصات بكل سخاء في جميع المجالات التعليمية والصحية والإنشائية والنقل والمواصلات والدفاع والأمن ومخصصات الدعم الحكومي من خلال صناديق الإقراض والرعاية الاجتماعية ولكن المشكلة أن المحصلة لا تتناسب مع المعطيات أو بمعنى آخر ان مخرجات البذل والعطاء أقل بكثير مما هو متوقع منها والسبب يكمن في عدد من الأمور التي يمكن أن نذكر منها ما يلي: * التعليم يدور في حلقة مفرغة فالتعليم العالي يعتمد على مخرجات التعليم العام والتعليم العام يعتمد في أدائه ومخرجاته على خريجي التعليم العالي وبما أن كلاً منها لا يسير على برنامج محدد الأهداف والرؤى فإن مخرجاتها لم ولن تتوافق مع متطلبات سوق العمل سواء كان ذلك داخل دائرة التعليم أو دائرة الصناعة أو الخدمات أو غيرهما مما لا يمكن حصره. وهذا يتطلب إعادة النظر بنظامنا التعليمي والعمل على إعادة هيكلته منهجاً ومعلماً وإدارة بحيث يتواكب مع حراك التعليم العالي الذي يمثل الركيزة الأساسية لجميع فعاليات الحراك في الدول المتقدمة. * الإدارة الفردية في أغلب القطاعات من أكبر العوائق التي تقف حجر عثرة أمام الإبداع وبروز الأكفاء لأن المدير الفرد والوزير الفرد مهما أوتي من الحكمة والعلم يظل بحاجة إلى الرأي الجمعي ناهيك عن أن المسؤول الفرد لا يمكنه الإحاطة بكل شيء تحت إدارته ما لم يكن لديه فريق عمل متكامل همه تحقيق التميز والنجاح للمؤسسة التي يعمل بها وليس التملق للمدير والشقاق مع الآخرين وتشكيل مراكز قوى داخل الإدارة نفسها أو تعطيل التكامل مع القطاعات الأخرى من خلال قتل المبادرات النيرة بالأساليب البيروقراطية المعطلة التي عمادها التعامل مع الأمور الورقية ونسيان واقع الحال فهناك فرق شاسع بين من يدير مؤسسته ميدانياً ومن يديرها من وراء حجاب. وبين من يسيّر الأمور يوماً بيوم وبين من يسير الأمور وفق خطة محكمة مربوطة بزمن معين وتحقيق إنجاز ملحوظ يجعل التناسب بين المدخلات والمخرجات يستحق ما يبذل فيه من مال وجهد ووقت فالعبرة دائماً بالنتائج التي تتحقق على أرض الواقع. * ثقافة العمل في كثير من القطاعات مغيبة وذلك بسبب غياب تعليم ثقافة العمل والالتزام في كل من البيت والمؤسسات المعنية ناهيك عن مراحل التعليم المختلفة التي يجب ان يكون من أولويات برامجها زرع روح المسؤولية والأمانة والمحافظة على المال العام واحترام أنظمة الدولة والإخلاص وتأطير ذلك من خلال الأنظمة التي يزيد من فعاليتها سهولة التعيين والفصل ووجود قوائم انتظار تتنافس على أية فرصة متاحة لأن هذا سوف يحفز على مزيد من التحصيل وحضور الدورات والحصول على شهادات تدريب من أجل جعل السيرة الذاتية أقوى على المنافسة وفي نفس الوقت هذا الأسلوب يحض من يشغل وظيفة على التمسك بها من خلال التفاني وتطوير القدرات الذاتية حتى لا يتم الاستغناء عنه. أما أسلوب الأنظمة القائمة فهو أول عوامل التثبيط لأنه لا يفرق بين مجتهد وكسول إلا في حدود ضيقة. فهل نسعى إلى تصحيح المسار من خلال إعادة هيكلة التعليم بما يتماشى مع الأهداف التي لابد أن تكون على شكل خطط استراتيجية مربوطة بمدد زمنية غير قابلة لتمييع أو التهميش أو التعثر. بالإضافة إلى إعادة صياغة جميع الأنظمة التي مر عليها زمن طويل دون تطوير يذكر. إن أيسر سبل التطور هو ذلك الأسلوب الذي أخذت به دول كثيرة مثل اليابان وكوريا وتايوان وماليزيا وحتى الصين والذي يتمثل في خوض غمار معركة التنمية والتقدم من خلال التقليد والمحاكاة في البداية ثم التوطين والتطوير ثم الانطلاق إلى آفاق الابتكار والإبداع حتى أصبح لكل منهما صناعته المميزة وتقنيته المتقدمة وأساليبه الفريدة وسمعته المتفوقة وقدراته الخلاقة واقتصاده المعرفي القوي الذي جعل من تلك الدول قوة اقتصادية وصناعية وتجارية جبارة على الرغم من ندرة الموارد الطبيعية لدى كل منها فما بالك بنا ونحن الأقدر والأجدر والأنسب والأحق. والله المستعان.
مشاركة :