ويشاء القدر أن يجمعني بتلك العجوز التي لا حول لها ولا قوة، لتركب معي الحافلة، وتذهب إلى حيث أنا ذاهبة. توقفت الحافلة في نهاية دورتها ولا يتبقى سوانا، فأمسكت بيدها لتسند عليّ، ثم طرحت عليها سؤالاً: "إلى أين ستذهبين؟ لعل بيتك في طريقي فنذهب معاً". قالت: "أشعر بالضيق وأردت المجيء إلى هنا، لأستعيد ذلك اليوم الذي جئت فيه منذ زمنٍ بعيد وأريدك أن تكوني معي، فهل توافقين؟". ظل فضولي يثيرني، فأردت أن أعرف ما الذي يجعل امرأة لا تستطيع الذهاب لمسافةٍ طويلةٍ كهذه، من دون مرافق، فهي تتحرك بصعوبةٍ وببطء شديد، وغالبٌ عليها التعب والضعف وكأنها تحمل همّاً أكبر من ضعفها فجاءت لتلقي به هنا! فأجبتها سريعاً: "نعم، أوافق أن أصاحبك وسعيدةٌ جدّاً بذلك". سرنا مشياً على أقدامنا قليلاً، ثم جلسنا ليبدأ الحديث بسؤالي لها: أين تسكنين؟ كانت الصدمة أنها لا تعلم كيف تجيبني! لاحظت أنها مشوشةٌ ويبدو على وجهها القلق، فهي ذهبت من بيتها وكل همها أن تصل إلى قرية جميلة تدعى "القناطر"، ولم تفكّر كيف ستعود إلى منزلها ثانيةً! ظللت أحاول مراراً وتكراراً أن أجعلها تتذكر أين تسكن! في كل مرة أعيد عليها السؤال كانت تجيبني: "هل ستأتين لزيارتي؟"، فقلت لها: "وكيف لي أن آتي وأنا لم أعلم ما عنوانك!". فتجيبني بذاك الجواب نفسه وتنظر إليّ وفي عينيها دموعٌ تكاد تنهمر إذا تركت سرحها. اعترتني لحظة صمت، أحاول جاهدةً فهم ما وراء عينيها المليئتين بالدموع، ابتسمت في وجهها وأمسكت يديها وقلت لها: "حسناً، ما اسمك؟". فتأتي الصدمة الثانية لي بأن اسمها اسم والدتي نفسه، عيناي تذرفان دموعاً؛ فقد تخيلت أن أمي هي التي أمامي في ذلك الموقف، وخطر ببالي سؤالان: هل سترجع منزلها ثانيةً؟ أم ستظل في الشوارع لا مأوى لها؟ ثم أكملت حديثي وسألتها: "هل لديك أبناء؟"، قالت: "لدي ابنٌ"، فقلت لها: "لِم لَم يذهب معك حيث تريدين؟!". أجابتني بأنه مشغول دائماً. في أثناء حديثنا، أصرّت على أن أكتب لها اسمي في ورقة وأعطيها إياه؛ لتسأل عني عندما تأتي إلى هنا مرة أخرى، وظلت تدعو أن تلتقيني مرة ثانية. في أثناء وضعها الورقة التي أعطيتها إياها في حقيبتها، لاحظتُ أن لديها أوراقاً أخرى، لأجد رقم جوال ابنها، ففرحت واتصلت به سريعاً. ولسوء الحظ، عند الاتصال يعطيني رنيناً ثم "مشغول"، كل مرة أعاود الاتصال يكون هكذا! فأرسلت له رسالة بأن والدتك تائهة. اتصل بى سريعاً، فشرحت له الأمر وقال إنه يبعد مسافة ساعتين ليصل، ثم اقترحت أن نتقابل في منتصف المسافة. بعد إنهاء المكالمة، ظلت العجوز تردِّد بلهفة: "هل ابني قال إنه سيأتي؟!"، وكأنها لم تصدق الأمر، فتصمت للحظات وتكرر ذاك السؤال. ظللنا طوال الطريق وهي علي ذاك الحال بين الفرح تارة والقلق تارةً أخرى إلى أن وصلنا، عندما رأت ابنها صارت كالطفلة في تلك اللحظة، فملامحها تبتهج فرحاً. أردت أن أودِّعها، ولكنها كانت تشدُّ على يديَّ كالطفلة التي لا تريد أن تفلت يد أمها ودموعها تسيل. ثم أعادت علي ذاك السؤال: "هل ستأتين لزيارتي؟". شعرت في تلك اللحظة كم نحن بخلاء بمشاعرنا على أقرب الأقربين إلينا (أهلنا)! وكم هم بحاجة إليها. وكما قالت سماح صافي: "لِم لَم نخبرهم قبل أن يرحلوا!". واقتباساً من آلاء حمدان عندما قالت: "هل تركنا لهم أمراً يشغلون به وقتهم عند كبرهم وذهابنا؟ لا أدرى...!". هل ظلموا أنفسهم أم نحن أنانيون أردناهم لأنفسنا في طفولتنا وتركناهم دون شيء سوى زيارة يوم الجمعة؟ ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :