من باب السياسة المشتقة تبدو مصائر الناس مجرد تابع، فالقضاء على داعش هو الهدف الصريح وهو المتن، أما قتل ما يزيد على 500 مدني عراقي في الموصل، قرب مشفى الرحمة، فهو على هامش قوانين الحرب.العرب علي العائد [نُشر في 2017/04/01، العدد: 10589، ص(9)] لو كان العسكريون جزءاً من الكتل السياسية المعارضة، أو العكس، لكان الربط بين ما يجري على الأرض من قتال حول دمشق وحماة، طبيعيا، بمعنى أن القتال جزء من السياسة، والأخيرة هناك في جنيف تدعم البندقية هنا في جوبر ومحيطها. لكن الواقع لا يدعم هذه الفكرة، فكل يغني على ليلاه، و”الطبل بدوما والعرس بحرستا”، حسب منطوق المثل الشعبي الشامي، إن كان هنالك طبل أو عرس أصلاً. وربما كانت أشهر الأمثلة على ارتباط بندقية العسكري بقرارات السياسي، وتناغم هذين في الحرب والمفاوضات، هو المثال الفيتنامي، فالبنادق لم تسكت حين كان المفاوضون في باريس يقارعون الأميركان بإشراف أممي حوالي سنتين ما بين 1973 و1975، ولم يكن إسكات البنادق شرطا لاستمرار التفاوض. واستمرت المفاوضات حتى انسحب الأميركان معلنين “الهزيمة” فسكتت البنادق، بعد حرب استمرت من 1957 حتى 1975. في سوريا، نشأ المستوى السياسي الممثل للثورة، أو ما يُفترض به أن يكون، في فترة متزامنة مع ظهور السلاح. لكن توالد الفصائل المسلحة كان أكثر نشاطاً، ووصلت في بعض الأوقات إلى أكثر من ألف تشكيل مسلح صغير ومتوسط، قبل أن يتراجع عددها وتستقر على ما لا يقل عن مئة تشكيل مسلح كبير وصغير كلها يدعي دعم الثورة ومعارضة النظام، دون أن نستثني منها وفق هذا الادعاء داعش والنصرة، وعشرات الفصائل التي تشتم الديمقراطية الآتية، وترفع شعار الحكم الإسلامي، وتعلن نيتها تطبيق “الشريعة الإسلامية”. وللتذكير، لم تقنع المراقبين خطوة “جبهة النصرة لأهل الشام” بفك ارتباطها بالقاعدة قبل حوالي سنة، ومن ثم تغيير اسمها إلى “جبهة فتح الشام”، وأخيراً “هيئة تحرير الشام” بالتشارك مع فصائل أخرى. وظلت هيَ هيَ “النصرة”، اختصاراً، فالدول المبدعة لقوائم الإرهاب لا تزال تصنفها في الموقع ذاته، فضلا عن عدد كبير من السوريين مازالوا ينظرون إليها بارتياب من خلال آثار تحكمها بحياة الناس في المناطق التي تسيطر عليها، مثلها مثل داعش. وحتى بافتراض أن تفاوض النصرة وشركائها مع النظام الأسدي في “معركة دمشق” بالسلاح على أبواب دمشق الشمالية والشرقية سيعطي نتيجة، منفرداً، بغض النظر عن المسار السياسي المنعقد هذه الأيام في جنيف، تبدو المفاعيل المستقبلية لذلك مربكة مادام التواصل مقطوعاً مع السياسيين في جنيف، ويبدو المشهد الحالي مجرد عبث بالسلاح، بمعنى أن المشاكل التي سينتجها تغيير توزيع نقاط السيطرة بين النظام والفصائل المهاجمة سيصبّ في مصلحة السلاح هنا وهناك. وفي ما يخص النصرة فإنها في الأصل لم تنسق مع السياسيين قبل بدء المعركة، وبالتالي هي غير ملزمة بتقديم تقرير للسياسي الزائر في جنيف. وفي كل مرة يقاتل فيها فصيل إسلامي النظام الأسدي، يُجرح أو يُقتل، ينتصر أو يُهزم، تنهض الفكرة العلنية المكرورة: نحن ضحينا بدمنا ضد الأسد ونظامه، ولن نسلم “نصرنا” للسياسيين المدنيين الذين لم يقدموا أي تضحية. وبمعنى آخر، سترفع البعض من الفصائل الشعار “والله! ما خرجنا إلا لنصرة هذا الدين”. وقد يضيف بعضهم مجدداً “ديموقراطيتكم تحت قدمي”. هذا هو منطق السلاح حين يكون منفردا وغير مسيطر عليه، بل هذا مصير السلاح حين يكون موجها من الداعمين بقصد خلق الفوضى المديدة. نجح الداعمون في توريط الناس بالمال والسلاح. كما نجح “المجتمع الدولي” في إشاعة حالة الاسترخاء بين الناشطين المدنيين من خلال دعم إنشاء المنظمات غير الحكومية، وإقناع الناشطين أن تحضير ملفات “اليوم التالي” لهزيمة الدكتاتور أهم من المساهمة في إسقاطه، وأن السياسيين والعسكريين سيتولون مهمة إسقاط الدكتاتور، بينما تجهز منظماتهم ملفات إدانة الدكتاتور في محكمة محلية أو دولية. في جنيف، استقوى سياسيو المعارضة بمعارك دمشق وحماة، بعد خفوت النبرة المتحدية في أستانة والقسم الأول من جنيف 4، على الرغم من براءتهم من كل تفاصيل المعركتين، حتى لو كان الجيش السوري الحر هو القائم على معارك ريف حماة. فمعركة دمشق تقودها النصرة، حيث لا علاقات دبلوماسية بينها وبين الهيئة العليا للتفاوض، بحكم الأمر الواقع، والطرفان لا يعترفان بحق الآخر في القول والفعل، ولا توجد لغة تفاهم وسطية في هذه المرحلة، أو في المستقبل ربما. وقرع الطبول في دوما، أو برودة طاولات جنيف، هما وجهان، لكن ليس لعملة واحدة، فمن المبالغة وصف ما يجري بـ”تقية” سياسية، تنسق فيها المعارضة السياسية القلقة مع الفصائل الإسلامية العسكرية، سراً. ولا دليل أو تفاؤل، بأن جبهة النصرة يمكن أن تقبل بحكم مدني لسوريا المستقبل، تماماً مثلما لا يمكن توقع أن تقبل المعارضة السياسية، على ضعفها، بدور للنظام الأسدي في مرحلة انتقالية تمهد لعودة الحياة الطبيعية للسوريين. قريباً من ذلك، الرقة غير بعيدة عما يجري في دمشق وحماة أو جنيف، لكن ليس على جدول أعمال الطرفين المفاوضين، أو رعاتهما، فحين يتعلق الأمر بداعش تخرج خيوط اللعبة من يد السوريين، معارضة ونظاماً، ولا يكاد رأيهم في مستقبل الرقة يتعدى رأيهم في مستقبل داعش، فالطرفان متفقان على “شر داعش”، ومن باب السياسة المشتقة تبدو مصائر الناس مجرد تابع، فالقضاء على داعش هو الهدف الصريح، وهو المتن، أما قتل ما يزيد على 500 مدني عراقي في الموصل، قرب مشفى الرحمة، فهو على هامش “قوانين الحرب” التي نقل منها ناشط حقوقي عراقي عن عسكري أميركي أن سقوط 30 ألف مدني قبل السيطرة على الموصل هو “أمر مقبول”! والأمر يشبه هنا عبثية التصريحات العراقية الأميركية التي قدّرت زمن معركة الموصل، قبل حوالي ستة أشهر، ما بين أسبوعين وشهرين. وإذا كان هذا حال الدول التي تملك بدائل عديدة في السياسة والحرب، فلا ملامة على السوريين والعراقيين، الذين لا يملكون حتى قرار المعركة التي يذهبون وقوداً لها، في الموصل والفلوجة من قبل، والرقة وحماة ودمشق، دون أن ننسى حلب ودير الزور وتدمر. فالداعمون دواعش بأفعالهم، وهم أصل ما يحدث الآن، بالمال والسلاح والسياسات المستترة لبائع السلاح الروسي، وبانسحاب السمسار الأميركي في عهد باراك أوباما، وصولاً إلى الساعات الأولى من عهد دونالد ترامب المنشغل بترتيب أولوياته وتحالفاته في الشمال السوري عازفاً على وتر العداوة التركية الكردية. ليبقى الربط بين ساحات جنيف، ومرامي المدافع في جنوب سوريا ووسطها وشرقها، أمراً طارئا، باستثناء ما يتعلق بداعش. مع ذلك، حركت معركة دمشق، خاصة، مراجل السياسة والسلاح، على غير توقع، ودون إدراك صريح لمن “سمح” بهذا التحريك. فالعادة أن يكون لمثل هذا التحريك هدف، حتى لا نجازف بالقول إن معركة دمشق تتجه إلى كتابة آخر أيام دكتاتور دمشق. هي كذلك اتساقاً مع المثل “إذا ما كبرت ما تصغر”، فقط. كاتب وصحافي سوريعلي العائد
مشاركة :