منذ إقدام تنظيم «داعش» على ذبح رهينته الأميركي جمس فولي في آب (أغسطس) 2014، باتت النهاية محتمة، إذ لا يمكن لشبه دويلة البقاء بعد القيام بعملية مشابهة، ولا يزال في الأذهان مصير إمارة طالبان بعد إعلان تنظيم القاعدة مسؤوليته عن أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001. إذاً، التسارع في عملية القضاء على التنظيم اليوم يخضع لاعتبارات تخص الإدارة الجديدة، وعلى الأرجح لتجرؤها على زج عدد أكبر من المستشارين العسكريين في ميدان المعركة والمجازفة بحيواتهم. مع بروز «داعش»، كانت قد انتعشت مقولة تنص على «أننا جميعاً دواعش»، بما يمزج بين قليل من السياسة وعلم الاجتماع. حتى أنها بدت مقولة براقة، بمقدار ما تحمل (أو تداعب) ذلك الإحساس الجمعي بالذنب، ولا أسهل كما نعلم من تحميل الجموع المقهورة الإحساس بالذنب، فالأخير بمثابة عزاء لعدم قدرتها على الفعل. الآلية ذاتها سنرى اعتمادها من قبل شيوخ الجهاد، حيث تستحق الجموع المقهورة ما يحدث لها عقاباً سماوياً، لتصبح مستحقة العقاب مرة لأنها داعشية، ومرة أخرى لأنها ليست كذلك كما ينبغي. وكما نلاحظ في السطور الأخيرة، سيسهّل علينا المدخل الاجتماعي الدخول إلى النفسي، ومتى دخلنا في علم النفس نكون قد قطعنا شوطاً آخر في الابتعاد عن الاستهلال السياسي، ولن نعدم في علم النفس ما يؤيد فرضية ونقيضها، بخاصة متى امتلكنا القدرة على الاجتزاء والانتقائية. استطراداً، قد تلزم الإشارة إلى أن الاجتزاء والانتقائية سمتان شبه ملازمتين للتسييس، هذا ما ينبئنا به سوسيولوجيون منذ حوالى ثلاثة عقود. سؤال: مَن نكون بعد هزيمة «داعش»؟ هزلي ظاهراً. فهل سنتراجع لنكون دواعش بالقوة، بعد أن كنا لفترة دواعش بالفعل؟ أم أن هزيمة التنظيم تعني انقضاء المقولة نفسها بعدّها موضة ملازمة له؟ من المحتمل جداً أن أصحاب مقولة «كلنا دواعش» يرون أن الداعشية ستبقى كامنة «بالقوة»، وهذا ما يراه اليمين المتطرف الغربي أيضاً، وبالطبع هذا ما تروّجه أنظمة الاستبداد في المنطقة التي تطرح إعادة اعتمادها ناطوراً محلياً على قطيع الإرهابيين. الحق أن بعض المثقفين الذين تبنوا المقولة لا يتبنون الحل الأمني وتبعاته من إعادة اعتماد الاستبداد، لكن مع الأسف الاتفاق على التشخيص يقلل من أهمية الاختلاف على العلاج. كانت الثقافة الغربية قد بدأت تقطع بشدة نقدية مع مختلف أنواع التنميطات منذ نصف قرن، وباستثناء اليمين المتطرف قلما نجد غربياً يتورط في موروث التنميط، إزاء أمثاله أو إزاء شعوب أخرى، إلا ويعتذر عنه. هذا القطع لم يأتِ فحسب على خلفية انتعاش الفردانية في الغرب، بل أيضاً على أرضية فهم أكبر للواقع وللمجتمع والفرد. فما محله علم الاجتماع السياسي من ظواهر زمنية، مهما بلغ حجمها، لا يؤخذ دلالة جوهرانية على أية مجموعة بشرية. حتى الأفكار الشمولية الكبرى لا يُنظر إلى معتنقيها خارج المعيار الزمني الذي يتضمن مجمل الظروف، وتلك الأفكار واحدة منها. حنا أرندت، على سبيل المثال، ترى جميع العقائد الشمولية تحتوي على عناصر توتاليتارية، انتعاش العناصر وانتقالها إلى الفعل يستلزمان ظرفاً مناسباً وزيادة في عدد المؤمنين بتلك العناصر تحديداً. بالأحرى مقولة «كلنا دواعش» لا تقول شيئاً مفيداً على الإطلاق، تحت وهم برّاق مفاده أنها تقول شيئاً عميقاً، أو أنها تتضمن القول الفصل. هي تشبه تعميمات أخرى من نوع «في كلّ منا مستبد صغير»، أو «في كل رجل يقبع عدو للمرأة». مقولات وظيفتها المفترضة أصلاً الدعوة إلى التأمل في أعماق النفس وما قد يكمن فيها، ولا بأس في التأكيد أن هذه الدعوة فردية، ولا تندرج ضمن إطار التسييس المباشر كما حصل مع مقولتنا التي ازدهرت مع بروز داعش. في المجمل، مقولات كهذه لا تُصرف في الفضاء العام لدى الغربيين، لا أحد مثلاً يقول اليوم إن في داخل كل غربي عنصريا كامنا، على خلفية صعود اليمين المتطرف، ولا أحد يتهم الأميركيين الذين انتخبوا ترامب بأنهم بأكملهم عنصريون، بل تتفرع التحليلات لتفند مصالح كل فئة من المقترعين، مع أن الأقرب إلى المنطق الصوري التعميمي هو اتهام جميع من انتخبوا بملء إراداتهم بلا إكراه ما دام الاتهام بالداعشية ممكناً في حق مَن لم يقترعوا (أو يبايعوا) التنظيم. الأمر ذاته ينطبق على فرنسا، معقل اللاييكية، حيث تتصدر قائمة المرشحين في استطلاعات الرأي مرشحة اليمين المتطرف، وحيث تنطق باسمها وباسم حزبها جريدة تُسمى الصليب «La croix». يصح في هذا السياق أن نتذكر اتهامات أردوغان الألمان والهولنديين بالنازية وردّ المستشارة الألمانية المهذب عليه، ولو كان الرئيس التركي مواطناً أوروبياً لما تجرأ على وصف أي شعب هكذا تحت طائلة القوانين التي تجرّم كل أنواع التمييز، وتحت طائلة الأعراف الثقافية التي تعتبر التنميط بكافة أشكاله نوعاً من أنواع التمييز. الأصل هنا هو النظر إلى الفرد ككائن حقوقي مستقل، وإلى ما يكونه في الفضاء العام قولاً وسلوكاً، دائماً ضمن دولة القانون والديموقراطية لا في غيابهما المطلق، أما ما يعتمل في نفسه فهو شأنه الخاص. موضتنا في جَلْد الجموع مقترنة بكل هزيمة، المعرفة المكتسبة تغيّر في الديباجة المستخدمة من دون تغيير في اعتماد التعميم والتنميط. لا يخفى أن هذه اللغة تستخدمها عادة «نخبة» تبرئ ذاتها من «العاهات المستديمة» لمجتمعاتها، ولو أتت تلك اللغة مموهة بالإحباط الشديد الذي تختص به «نخبة»، بينما العامة تزهو بجهلها! ليست المفارقة فقط في أن يلتقي ادّعاء النخبة مع عنصرية اليمين المتطرف الغربي، إذ يمكن فهم الأرضية الاستعلائية المشتركة بينهما. المفارقة هي في أن نخبتنا تنظر إلى ذاتها دائماً كصاحبة دور تنويري، أي ذات بعد تقدمي منفتح بخلاف انعزالية اليمين الغربي، وكان يُفترض بها بناءً على ذلك تمثُّل مجموعة من القيم الثقافية التي تستبعد التنميط وتروّج لثقافة مضادة له، وأن تُلزم نفسها بما ينبغي أن يكون قانوناً عاماً. لكن هذا لا يخلو من العسر لمَن سينتظر داعشاً جديداً كي يبرهن ما قاله قبلاً عن داعشية الجميع.
مشاركة :