لا يمكن لبحث يحاول جمع أسماء مائة من العباقرة الذين مروا بالدنيا، أن يتجاوز الفيلسوف الألماني إيمانويل كنْت(1724– 1804). ما هو مشروعه الذي قدمه بين يدي المعرفة والحضارة؟ لقد قدم شيئاً جعل العالم يضحك ويضرب أخماساً بأسداس، لأن الفكرة كانت قريبة جداً من كل أحد، وفي الوقت ذاته كانت نائية عن كل أحد. إن المرء ليدهش أشد الدهشة وهو يرى البشرية تنتظر كل هذه الفترة الطويلة كي تلد رجلا مثل كنْت يحدثها عن أبسط الحقائق الواضحة. لقد كان مشروع كنْت في (نقد العقل) أحد أهم الكشوف التي بقيت قروناً في مساحة اللا مفكر فيه. لقد جاء هذا الرجل وقال إن عقول الناس تختلف وكذا آراؤهم وأن اختلافاتهم وصلت لحد الصدام الذي لم ينته إلى شيء، فالكل متشبث برأيه ورؤيته للوجود والحياة والأخلاق. لقد وجد كنْت نفسه بين أستاذين: كرستيان فولف بفلسفته المسيحية الاعتقادية وديفيد هيوم بعقله الارتيابي الذي لم يعرف في القرون المتأخرة شكّاك مثله، فأوقف كنْت العجلة وقال لقد تعبنا من هذه الفوضى. لنتوقف عن الخلاف في التفاصيل، تعالوا نختبر الآلة نفسها التي أوصلتنا لتلك التفاصيل، تعالوا نختبر العقل نفسه، قبل أن نلجأ إليه للبرهنة على هذه القضية أو تلك. كان هذا الكلام جديدا كل الجدة على الإنسانية جمعاء، بغض النظر عما يقوله علماء الكلام عندنا من أمثال سعيد فودة الذي زعم أن علماء الكلام قد سبقوا كنْت لهذا، ولو أنه قرأ ( نقد العقل الخالص) و (نقد العقل العملي) و(نقد ملكة الحكم) ثم تحلى بالنزاهة العلمية، لاعترف بأن هذا الكلام كان جديدا ولا يمكن أن تجده بهذا التماسك والتفصيل فيما كتبه أبو حامد الغزالي أو الفخر الرازي أو غيرهم من النظّار المشاهير. لقد كان هذا المشروع محاولة منهجية من أجل تعيين الحدود الدقيقة التي يمكن في مداها استعمال العقل بحيث يكون أداة للمعرفة الصحيحة، بعيدا عن التجربة والمنهج التجريبي برمته. لقد سعى كنْت لإقامة نظرية جديدة في العقل البشري ودراسة لقوى العقل. في العقل 3 قوى، القوة الأولى تقوم بوظيفة الإدراك، والثانية وظيفتها فعل الإرادة، والثالثة وظيفتها ترتبط بالخيال. أما الإدراك فقد درسه وحدّ حدوده في كتاب (نقد العقل الخالص) وأما الإرادة فقد خصها بكتاب (نقد العقل العملي). لقد كانت الفلسفة في زمنه تنقسم لقسمين: فلسفة نظرية وأخرى عملية، لكنه بعد أن فرغ من عمله وجد أنه بحاجة لإضافة جزء ثالث يدرس الخيال، فخرج كتابه (نقد ملكة الحكم). إنه مشروع فكري كامل يشمل كل أصناف المعرفة البشرية بشكل شامل يلم العلم والأخلاق والفن والجمال وكل أقسام العلوم الفلسفية من دراسة الوجود ونظرية المعرفة وبحث القيم. وبرغم كل الفجوات الحقيقية التي وجدها الباحثون في مذهبه، وبرغم مرور 213 سنة على وفاته، إلا أن العالم إلى هذا اليوم لا يزال يتذكر ويرجع إلى هذا الرجل الذي أوقف حركة الفكر ليضع العقل نفسه في قفص الاتهام.
مشاركة :