محمد رُضاترك المخرج الأسترالي بيتر وير بصمته الأهم في السبعينات والثمانينات والتسعينات، لكنه بعد أن بلغ ال72 من عمره الآن، لا يزال يُذكر بتلك الأعمال التي توّجته كأحد أهم مخرجي جيله، ومن أشهر من أنجبتهم السينما الأسترالية. في عام 1975 انتقل من الشهرة المحلية التي أنجزها في أستراليا إلى الشهرة العالمية بسبب فيلم اسمه «نزهة عند هانغينغ روك» الذي صوّره في النواحي المقفرة من البلاد، وكان عملاً وجدانياً مع لمسات من الغرابة والغموض لمعلمه (راشل روبرتس) وتلامذتها ينطلقون في رحلة صوب تلك البرية؛ حيث يختفون فيها بلا أثر.فيلمه التالي بعد عامين لم يكن أقل أهمية. عنوانه «الموجة الأخيرة» وفيه لعب الأمريكي رتشارد شامبرلاين دور محامٍ يدافع عن رجل من مواطني البلاد الأصليين قد اتهم بجريمة قتل لم يرتكبها.«غاليبولي» كان أكبر حجماً يدور عن اشتراك جنود أستراليين في الحرب العالمية الأولى وعلى الجبهة التركية تحديداً، ووُصف الفيلم آنذاك بأنه أحادي النظرة، على الرغم من أنه في الوقت نفسه من بين تلك الأعمال المخلصة لأسلوب المخرج وجدية أطروحاته.هذا الوضع استمر حين توجه إلى موضوع سياسي مبني على أحداث واقعية أخرى في فيلم «سنة العيش بخطر». أفلامه بعد ذلك تنوّعت بعدما انتقل للعمل إلى هوليوود. بما فيها فيلمه الأخير «طريق العودة» وفيلمه المقبل «الاستحواذ». عن حياته وأعماله كان هذا الحوار.. عمّ يتحدث فيلم «الاستحواذ»؟ حكاية عن وضع غامض، يصيب الوضع رجلين يتعاملان مع قصر قديم مملوء بالأشباح التي ليست شريرة بالضرورة. بعضها يحقق الأحلام التي تراودهما. لماذا التباعد بين إنجازاتك بعد أن كنت تحقق أفلامك بمعدل فيلم كل سنتين أو ثلاثة؟ الوضع الآن مختلف. هناك عدة عوامل من بينها أن المشروع الذي في بال مخرج في مكاني ومركزي لا يجد الكثير من الاهتمام لدى الآخرين. أقصد بذلك أن الإقبال على الأفلام السريعة لا تناسب مخرجاً أمضى حياته وراء أفلام اعتبر أن رسالتها يجب أن تكون مفيدة وجادة، كما أني لست من النوع اللاهث، لا أركض وراء الأعمال بمجرد سماعي بها. أريد أن أحافظ على هذه الميزة. من بين أفلامك الهوليوودية الناجحة «ترومان شو» و«مجتمع الشعراء الموتى» و«شاهد». بماذا خرجت من هذه التجربة؟ كانت تجربة مهمّة بالنسبة لي طبعاً، لكن النجاح الذي تتحدث عنه لم يكن شاملاً. «شاهد» أنجز نجاحاً تجارياً جيداً، لكن «مجتمع الشعراء الموتى» اكتفى بالنجاح النقدي. لا أقصد أن ذلك ليس مهمّاً، لكن النجاح متفاوت من فيلم لآخر. ما خرجت به من التجربة هي أن المخرج الذي يود العمل في هوليوود عليه أن يستسلم لشروطه، وهذا أمر مؤسف كدت أنجر إليه. كان عندي خيار وحيد آخر هو أن أعود إلى أستراليا واكتفي بتحقيق أفلامي على طريقتي. فيلمك الأخير «طريق العودة» ينتمي إلى مرحلتك الجديدة التي تتكلم عنها، لكن إنتاجه واجه عراقيل مادية. أليس كذلك؟ بلى. استرعت القصّة اهتمامي مطلع سنة 2007 لكني لم أجد الوقت الكافي للعمل عليه إلا في العام الماضي حين وجدت أنني فعلاً متعلّق بهذه القصّة وأريد نقلها إلى الشاشة. في 2008 كانت أولى محاولاتي الجادة لتحقيق الفيلم. كتبت السيناريو، لكني لم أجد أحداً يهتم بحكاية مساجين من سيبيريا يجتازون المسافة إلى الهند هرباً من الحكم في الأربعينات. وهي قصّة حقيقية كما تعلم. هل صحيح أن بعض التمويل جاء من مؤسسة «إيمج نيشن» في أبوظبي؟ نعم، توجهنا بالمشروع إلى تلك المؤسسة وحصلنا على جزء من التمويل كذلك حصلنا على جزء آخر من شركة أمريكية، إضافة إلى جزء ثالث من بولندا. عندما لا تكون هناك جهة واحدة تتكفل بمشروع معين سيمضي المخرج وقتاً طويلاً وهو ينتظر استكمال مشروعه. هل تعتقد أن «طريق العودة» له علاقة بالمستجدات السياسية حول العالم؟ ليس لي علم أكيد بهذه الناحية، ربما يحمل بعض المعاني المتّصلة بالحاضر فعلاً خصوصاً ونحن ننظر إلى ما يحدث حول العالم من تغييرات اجتماعية مهمّة وعلى مختلف الوجوه، اقتصادياً وصناعياً وسياسياً. لكن في الوقت ذاته، يتشبّث الفيلم بأحداثه التي تقع في أربعينات القرن الماضي؛ لذلك فإنه إذا ما كان هناك أي خيط رفيع بين الأمس واليوم، فهو خيط إنساني بالدرجة الأولى.* بالنسبة لي بدا الفيلم من ناحية الموضوع متأخراً نحو عقدين من موعده من حيث إن الحكاية تدور حول معتقلين في سيبيريا يفرون في مطلع الأربعينات ويطلبون اجتياز الحدود نحو مكان آمن. إلا أن كثيراً من الأفلام لا تدور في أزمنتنا ولو أنها ترتبط ضمنياً بها. «طريق العودة» يأخذ تلك الحادثة ويوحي بأنها ما زالت تتكرر في العديد من البلدان اليوم. هذا هو لب قضايا الهجرة غير الشرعية. أناس يهربون من واقع إلى آخر. هل كان إعجابك بتلك الواقعة السبب الأول لرغبتك تحقيق هذا الفيلم؟ نعم. نقطة انطلاقي مع المشروع كان الموضوع الذي يدور حول عزيمة مجموعة من الرجال قررت أن تستعيد حريّتها بالهرب من معتقلها في سيبيريا. لم تكن تعلم شيئاً عن مستقبلها وإذا ما كانت تستطيع النجاح في هذه العملية وسط الصقيع والطبيعة القاسية وطول المسافة التي عليها أن تجتازها للوصول إلى آسيا. روسيا بلاد كبيرة وتستطيع أن تتصوّر، وأعتقد أن الفيلم عكس ذلك، المسافة التي على الهاربين اجتيازها قبل الوصول إلى الأمان. كل يوم كان يمر عليهم، كان يوماً يمكن الاحتفال بمولدهم من جديد. هذا ما أردت نقله، وهذا ما أعتقد أنه يصل إلى المشاهد. أما الحقبة ذاتها فهي مستمرّة. هناك دائماً حلم لفرد بالحريّة التي حرم منها. لا بد أن التصوير في التضاريس الطبيعية، كان صعباً للغاية. تلك الأجواء الباردة وفترة التصوير الطويلة وانتقاله من منطقة إلى أخرى. بالفعل. هذا أصعب فيلم صوّرته ليس من هذه الناحية فقط، بل أيضاً من ناحية أنه لا ينسى أن عليه أن يؤدي دوراً ذهنياً ذكياً وليس تشويقياً فقط. وهذا ما يؤدي أن يبذل الممثل جهداً إضافياً لمنح شخصيّته اختلافها وتطوّرها. إلى جانب أن هناك جهداً بدنياً فائقاً وفّره لكل الممثلين المشتركين وأنا أقدّر ذلك، لكن بالدرجة الأولى أؤكد التحدي الذي واجهه كل ممثل مع الشخصية التي يؤديها، وكيف يجعلها مثيرة لذاتها، وليس فقط بسبب الأحداث التي تقع معها. ذكرت قبل قليل شيئاً عن الشروط والالتزامات التي على المخرجين القيام بها إذا ما أرادوا العمل في هوليوود. إلى ماذا قاد هذا الوضع في نظرك؟ قاد إلى ذلك أن معظم الأفلام المنتجة كان يمكن لها أن تكون أفضل لو أن مخرجيها مُنحوا حرية العمل كما كان وضع المخرجين في الستينات والسبعينات مثلاً. نقدي كان ولا يزال ناتجاً عن الاتجاه العام لصناعة السينما، وليس لأني خضت صراعاً ضد هوليوود بخصوص هذا الفيلم. طبعاً لم يكن تحقيق هذا الفيلم هيّناً إنتاجياً وتحدّثنا عن السنوات التي قضيتها لإنجاز هذا الفيلم. إنه منهج عام، وحين يكون هناك مخرج لا يستطيع إلا أن يحقق الفيلم الذي يريده هو فإن إيجاد الجهة التي تصغي إليه وتوافق معه يصبح مسألة مهمة وصعبة. أفلامي هي صنع اليد فعلاً. هل يتأثر الممثلون في هوليوود بهذا الوضع؟ طبعاً. ما نجده اليوم أن الممثل ما عاد عليه أن يتعمق في دوره أو أن ينهل من الشخصية ما يريد. كل شيء بات محدداً ومرسوماً له بحيث إن اندفاعه الأول لتأكيد موهبته باتت تعتمد على ما إذا كان الفيلم جدير بترشيحات الأوسكار أو لا. طبعاً ما زالت السينما الأمريكية تنجز أفلاماً ذات نوعية جيدة، لكن السائد هو أفلام «البوب كورن». أعرف أن هذا الوضع أثر على الممثلين، وأن كثيراً منهم التحقوا بأفلام السلاسل وعندما حاولوا تمثيل أفلام عادية واجهوا فشلاً كبيراً. طبعاً. الجمهور في كثير من الأحيان بات يطلب القناع البطل الذي يغطي وجه الممثل وليس الممثل نفسه. بالنسبة لي أعتقد أن أي ممثل يمكن أن يلعب أي دور من هذه الأدوار، سواء كان «سوبرمان» أو «آيرون مان» أو سواهما، لأن المطلب الأساسي ليس الممثل بل طواعيته واستعداده للظهور في وسط كتلة من المؤثرات الخاصة. دوره هو أن ينظر إلى فضاء الاستوديو، ويتصوّر أن هناك وحشاً سينقض عليه وسيتم خلق الوحش لاحقاً. هل عُرض عليك تحقيق فيلم من هذا النوع ورفضت؟ لا. لم يحدث ذلك. أعتقد أن المنتجين يدركون تماماً أي نوع من المخرجين يريدون التعامل معهم. وأنا لست من هذا النوع.
مشاركة :