«حياتي كلها خصصتها لدراسة الكتاب الكريم، ولم أقرأ يوماً ان قتل الأبرياء هو السبيل الى الجنة. الإرهابيون لا يمثلون أي دين... نحن بريطانيون، وجزء من هذا البلد»، يقول إمام بريطاني وهو يوجه العزاء الى اهالي ضحايا الهجوم في ويستمينستر. وفي ساحة فيكتوريا امام بلدية برمنغهام تجمع عشرات من ممثلي المسلمين، ورفعوا لافتة تقول:» ليس باسمنا»- لا للتذرع بالإسلام لقتل الأبرياء. والنداء الى التجمع أطلقته جمعية «مسلمون ضد الإرهاب»، صبيحة اليوم التالي على هجوم ويستمينستر الذي أودى بحياة اربعة اشخاص، وجرح عشرات في 22 آذار (مارس). وتقول شابة لبت نداء الجمعية أنها حين بلغها خبر الهجوم، حبست انفاسها وبدأت تدعو ألا يكون الجاني مسلماً وألا تكون صلته وثيقة ببرمنغهام. ولكن خيوط التحقيق أفضت الى برمنغهام، واعتقلت الشرطة 9 اشخاص في الساعات الثماني والأربعين بعد الهجوم. ولم يجد التحقيق دليلاً على صلة خالد مسعود، منفذ الهجوم، بخلايا داعش أو «القاعدة»، على رغم «اهتمامه» بالجهاد. وكان اسمه قبل اعتناق الإسلام المتطرف أدريان إيلمس، وهو كان جانحاً انتهت به جنحه الى السجن حيث يقال ان رب العائلة هذا، وهو كان عنيفاً، امضى عامين في 2003. ولكن هل انزلاقه الى الإرهاب بدأ في السجن ام حين عمله في بلد عربي بين 2005 و2009؟ وهو ولد في كنت لأم انكليزية في السابعة عشرة، لوالد مجهول الهوية. وأمضى سنوات حياته الاخيرة في برمنغهام، حيث استأجر سيارة الدفع الرباعي التي استخدمها في الهجوم قبل طعن شرطي امام البرلمان، ونقل سكنه من حي وينسون غرين الهادئ حيث أقام مع شريكة في السن وابنها، الى حي على مقربة من هاغلي رود في شقة صغيرة مطلة على رواق مهمل تملأه إبر وخردة سيارات تستخدمها في الليل بائعات الهوى. والشرطة اوقفت ثلاثة اشخاص مساء الهجوم، أحدهم كان آخر من اتصل به خالد مسعود قبل 15 دقيقة من الهجوم. وتوجه اليوم سهام الشبهات الى ثاني مدينة في بريطانيا، وإلى سكانها المسلمين على وجه التحديد. وهذه المدينة لطالما اعتبرت نموذج التسامح والتعدد الثقافي البريطاني. ولكن في السنوات الأخيرة تحول هذا المعقل الصناعي السابق الى حيز أو إقطاع اسلاموي. وفي المدينة هذه 200 مسجد، وبعض الأحياء مغلقة ومتقوقعة على ابناء طائفة واحدة. وتتولى ادارة اسلامية ادارة المدارس العامة. وقبل اربعين عاماً كانت برمنغهام مقصد المهاجرين الإرلنديين، وهي اليوم تحتضن اكبر عدد من المسلمين خارج لندن. وربع سكانها البالغ عددهم مليون نسمة يشهرون اسلامهم، والنسبة هذه تتجاوز المعدل الوطني بـ5 في المئة. ووفق تقرير صادر عن مؤسسة «هنري جاكسون سوسايتي»، يتحدر من برمنغهام 40 ارهابياً من 269 ارهابياً شاركوا في اعمال ارهاب منذ 1998، ومنهم أول بريطاني مسلم متطرف بايع «القاعدة»، واعتقل في 2002، اثر تحويل شقته الى محترف لصناعة قنابل. ووجد رجال الشرطة في محترفه كميات كبيرة من متفجرات HMTD التي استخدمت في هجمات لندن في 2005. وحكم عليه بالسجن 20 عاماً، وهو اليوم طليق في شوراع المدينة هذه. وفي 2007، اعتقل 9 متهمين بالإرهاب، منهم برفيز خان، وكان وراء اعتقال وقطع رأس جندي باسم «القاعدة». ووفق صحيفة «وول ستريت جورنل»، ارتبط منفذو هجمات الثالث عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) في باريس وسان دونيز، بإسلاميين متطرفين في برمنغهام جمعتهم صلات بعبدالحميد أباعود المتهم بتدبير هجمات في اوروبا وتنسيقها. وبعض هؤلاء مسؤول عن تمويل محمد عبريني- التقطت صوره كاميرات المراقبة في مطار بروكسيل حيث تدور الشبهات حوله بالضلوع في تدبير هجمات 13 تشرين الثاني في باريس. وأحياء برمنغهام تحت المراقبة. ففي 2010، لم يمر مرور الكرام زرع الأحياء المسلمة بكاميرات المراقبة، وعلت الأصوات المنددة. ولكن في كانون الأول (ديسمبر) الأخير، استجوب 5 اشخاص في حي سوليهل، على مقربة من مكان استئجار خالد مسعود السيارة الرباعية الدفع. واثنان من الخمسة المعتقلين كانوا متجهين الى سورية، قبل اشهر حين اعتقالهم. ويرى استاذ البحوث الاجتماعية في جامعة المدينة، كريس آلن، ان عدداً من العوامل وراء التطرف في برمنغهام، أولها الفقر، وثانيها فتوة السكان. ففي الأحياء المحرومة والمهمشة التي ترتفع فيها نسبة المتحدرين من المهاجر، 40 في المئة من السكان في عمر اقل من 16 سنة. وشطر كبير من الباكستانيين يتحدرون من مناطق ريفية واحدة، وتدينهم بالغ التقليدية. والأجواء الجغرافية- السياسية في العالم الإسلامي والعربي تساهم كذلك في تأجيج التطرف. فـ «وقع النزاعات الليبية والسورية والفلسطينية كبير في احياء برمنغهام، وهي تغذي مشاعر النقمة»، يقول آلن. وعناصر التحليل هذا تطعن في النموذج البريطاني، وركنه الأبرز هو احترام الثقافات المختلفة وطرق عيش الجماعات. وبعض الإرهابيين كانوا على رأس جمعيات تلقت مساعدات عامة قبل رحيهم الى سورية. وأكثر من نصفهم يتحدرون من 5 احياء في برمنغهام. وفي جنوب شرقي المدينة، تقع اكثر المناطق تطرفاً، سمول هيث. وفيها عشرات الجوامع وعدد سكانها 36 الفاً، وأكثر من 80 في المئة من سكانها مسلمون، وشطر راجح منهم من اصول باكستانية وبعض آخر من اصول بنغلادشية وصومالية وأفغانية ويمنية. والجنسيات المتباينة تتجاور في السكن فقط، ولا تخالط بعضها. ومعدل البطالة اعلى مرتين من المعدل الوطني، وعلامات الفقر ناتئة. وعلى طول شارع كوفنتري، وهو شريان رئيسي في المدينة، تتجاور شركات التجارة والمطاعم الإتنية مع المكتبات الدينية ومتاجر اغطية الشعر (الحجاب) ووكالات سفر تعرض «رحلات 100 في المئة مطابقة للإسلام» لا تقدم الكحول بل «وجبات (طعام) «حلال». ولكن وضع المدارس في برمنغهام هو الشائك وموضع تساؤل. ففي 2013، وصلت رسالة من غير توقيع الى بلدية المدينة مُرفقة بوثيقة سرية تندد بسياسات تسلل تنظمها حركات سلفية للسيطرة على مؤسسات تربوية. وسميت هذه العملية بـ «حصان طروادة»، وتورط فيها مسؤولون في مدارس وجمعيات اهل الطلاب وأساتذة رمت الى ارساء نظام اسلامي سنّي في المدارس، وتعليم ديني. ووصلت القضية الى الحكومة البريطانية. ودار التحقيق على ست مدارس عامة. ويدعو الباحث عمران أوان الى عدم المبالغة وخلط الإسلام بالإرهاب قائلاً: «في مدرسة 99 في المئة من تلاميذها مسلمون، من المنطقي الكلام على شخصيات قرآنية والاحتفال بالعيد وليس بالميلاد. وهذه المدارس أحرزت معدلات ممتازة في الاختبارات المدرسية على المستوى الوطنية». ويرى الباحث هذا ان مكان عيش الإرهابي ليست المشكلة، بل طريقة تطرفه وشبكة التواطؤ مع الإرهابيين. ويخلص الى ان «حاضنة التطرف ليست الجوامع بل السجون والإنترنت». ولا شك في ان مسعود لم يتطرف في برمنغهام، ولكن المدينة هذه اليوم هي مدار ظنون كثيرة. * مراســلة، عن «لـوبــس» الفرنســية - 30/3/2017 إعداد منال نحاس
مشاركة :