واحة الحواس الخمس - اميمة الخميس

  • 5/5/2014
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

نشتكي دوما في الرياض من تصحر النشاط الثقافي، لكن عندما تربعت بيننا واحة مبهجة تنبت من كل زوج لوناً، بادرناها بالإهمال.. وهذا بالتحديد كان شعوري داخل معرض الفنان التشكيلي التركي إسماعيل أوجار (الحواس الخمس)، والذي نظمته مؤسسة ليان في مدينة الرياض. زائر المعرض لا يحتاج إلى خلفية عن الفنان التشكيلي العالمي ليدرك من الخطوات الأولى داخل المعرض بأنه يدخل تجربة فنية مختلفة تنخرط فيها جميع حواسه، على اعتبار أن استقبال الفنون وتذوقها، هما حالة إنسانية سامية تتغشى المتلقي عبر حواسه الخمس، ولا تستأثر حاسة دون أخرى، ومن هنا أتى اسم المعرض (الحواس الخمس)، حيث اللون الذي يكون عتبتك الأولى باتجاه اللوحة حتى إذا ما اقتنصتك فتنتها، داخلتك موسيقى الناي التي تستحضر لواعج الصوفيين وهم يتصعدون في معراج الكشف ومن ثم لاتلبث أن تمر بك غمامة عطر وتستدرجك في ترجمة للغة العطور السرية الخاصة، فنحن اعتدنا أن نسكب على ثيابنا ومنازلنا عشرات قوارير العطر دون أن نتوقف وننصت إلى حكاية كل زهرة سفحت عمرها داخل القارورة. وبما أن مهمة الفنان دوما هي الإنصات للغات الكون السرية، فإن أوجار توقف لينصت لحكاية الزهور، ولم يكتف بذلك بل حررها من عبوديتها داخل الزخرفة واستدناها خارج أطر الخزف.. لتحظى بحياة وإن كانت قصيرة.. إلا أنها حقيقية ومكثفة. النزعة الإنسانية المرتفعة لدى الفنان جعلته يجسم بعض اللوحات العالمية مثل لوحة الموناليزا وايضا يرسمها بطريقة برايل ليكون هناك حيز داخل المعرض للمكفوفين إلى جوار الصوت والرائحة. المفارقة هنا أن المعرض يؤكد للزائر القراءات المتباينة والتفسيرات المتفاوتة للأديان، والدين الإسلامي بالتحديد، فعلى حين يختار البعض أن يجعل منه نصا جامدا قائما على الجزر والمنع والتخويف، هناك قراءة مختلفة جعلت منه حالة عشق، ووجد لاينقطع بين العبد وخالقه، مع استثمار الفنون للتعبير عن حالة الفناء في ذات المحبوب. المعرض مقسم إلى غرفات ملونة بعضها يفضي على بعض وداخل كل غرفة يختلف مزاج الفضاء حولك عبر اختلاف الصوت واللون والرائحة من الأحمر لون الحب حيث جعل أوجار مكة المكرمة على أوراق ورد الجوري الأحمر، وجعل الكعبة على يسار اللوحة.. في موضع القلب منها، وقام باستنطاق الحرف العربي بجميع تجلياته فظهر اسم الجلالة فوق لوحات ذهبية مشغولة بدانتيلا الصبر والدقة، بينما جعل الحيز الأصفر للبركة والأسود للقوة والأبيض للنقاء. لم أشهد احتفاء جماليا بالتشكلات الخلاقة اللامتناهية للحرف العربي كما وجدتها لدى الخطاطين الأتراك، حتى إنهم جعلوا له طاقات كونية كامنة تحضر وتحل مع رؤية الحرف وترديده. الأسبوع الماضي عندما كنت في مدينة إسطنبول كان هناك معرض للخط العربي داخل مسجد أيا صوفيا فتنت حرفيته الزوار من جميع أنحاء العالم، ولكن يظل ذلك المعرض تقليديا يكتفي ببهاء الحرف ويصمت.. ولم يستنفر الحواس كما هو معرض إسماعيل أوجار الذي يورط حواسك الخمس بالفعل الفني منذ الخطوة الأولى هناك. مع الأسف اليوم هو آخر يوم للمعرض، وكم كان بودي أن يحظى بالمزيد من الدعاية والاهتمام، وأن يزوره طلبة كليات الفنون، أيضا طلبة المدارس الموهوبون، في محيط يعاني من هيمنة الأسمنت وخفوت جماليات التشكيل مع معاناة الكثيرين منا من الأمية التشكيلية. ولأن هذا النوع من المعارض ليس مجرد واحة تومض في صحرائنا الثقافية ومن ثم تتلاشى.. فلا بد من استثماره حتى حدوده القصوى.

مشاركة :