نحن أبناء الجغرافيا، هي تشكل هويتنا الطبيعية، ونحن نمنحها هويتها التاريخية، هي تنتج حاضرنا، ونحن نصنع مستقبلها، هي تحكمنا بطبائع الأشياء، ونحن نحاول أن نحكمها بقواعد الطموح الوطني، أو القومي أو الديني.منطقتنا تتشكل مجدداً، بخرائط جديدة للقوة، وبانتشار مختلف للبشر، وللأفكار، يشرع أبواباً للعنف بأكثر مما يفتح آفاقاً للاستقرار.جماعات ترفع رايات الدين والمذهب والطائفة، وشعوب ترفع شعارات الوطنية أو القومية، لكن مستقبل المنطقة لن تقرره الطائفية، ولن تحسم خياراته الشعارات القومية، بمنأى عن مصالح وحسابات القوى العظمى.حدسي يخبرني، أن مرحلة طَي خرائط سايكس بيكو توشك أن تنتهي، وأن مرحلة بسط الخرائط الجديدة في عالم متعدد الأقطاب توشك أن تبدأ، وأن منطقة الشرق الأوسط، والقلب العربي الخالص لها، توشك أن تتغير، ليس بخرائطها فحسب، وإنما أيضاً بقواعد وقوانين غير مكتوبة ظلت حاكمة لعلاقات القوى فيها على مدى مائة عام منذ سايكس بيكو.لا أطالع في الكف، ولا أقرأ المستقبل من الفنجان، لكنني أتوقع تغييراً وشيكاً في قواعد الاشتباك بسوريا، وأستطلع مساعيَ أمريكية لصياغة منظومة للأمن الإقليمي في المنطقة العربية، لن تكلل بالنجاح ما لم يسبقها جهد دبلوماسي وسياسي كبير لصياغة علاقات سلام إقليمي بين العرب وإسرائيل، تبدأ مقارباتها في واشنطن خلال أسابيع بقمة خماسية تضم قادة مصر والأردن وفلسطين والولايات المتحدة وإسرائيل.إدارة ترامب تسعى لإنتاج مقاربة جديدة، يجري بموجبها إعادة تعريف الخطر ليصبح الإرهاب، وإعادة تحديد مصدر التهديد، لتصبح إيران. ثم تنطلق مقاربة ترامب، إلى طرح خيارات المواجهة مع الخطر، وإسكات مصادر التهديد.في تقديري، فإن ادارة ترامب لن تذهب إلى مواجهة عسكرية مع إيران، لكنها ستسعى لتطوير سياسات الاحتواء الأمريكية لطهران منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، ليصبح الاحتواء تطويقاً، تجري ممارسته من خلال تحالف عسكري، أو منظومة قوة إقليمية عربية بالأساس، فيها مصر والأردن ودول بمجلس التعاون الخليجي.يقترب حلف ترامب كثيراً من اقتراح الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قبل نحو عامين، بتأسيس قوة عربية مشتركة، فالطرح الأمريكي لم يتحدث عن تحالف إسلامي، وإن قال خبراء إنه قد يستفيد من هذا التحالف على أية حال، كما أنه نأى بنفسه عن بناء تحالف طائفي (سني ضد شيعي) باعتبار أن الحرب على الإرهاب تستهدف في الغالب تنظيمات أغلبها سني مثل داعش أو القاعدة.جاذبية الطرح الأمريكي آنية، تتعامل مع ظرف قد يتغير، لكنها تستمد قوة دفع هائلة، كلما تصاعد مستوى التهديد الإيراني للإقليم، وكذلك كلما اقتربت من التعامل الجاد مع الملف الفلسطيني. لكن أخطر ما في هذا الطرح، هو أن تفاهماً عربياً على تعريف الخطر، وعلى تحديد مصادر التهديد، وأولويات المواجهة معه، ما يزال بعيداً، بانتظار حوار عربي/ عربي يحدد تعريف الخطر، ومصدر التهديد، وسبل المواجهة معه، دون أدنى التباس، بعيداً عن صياغات إنشائية، تجامل بأكثر مما تحسب، وتخاطب الغرائز بأكثر مما تخاطب العقول.التحالف العربي الذي يباركه ترامب، لن يكون إضافة لرصيد القوة العربية، ما لم يتفاهم أطرافه العرب مسبقاً، على أدق دقائقه، وكل تفاصيله. وهو ما ستحاول قوى الفعل العربية إنجازه خلال الأسابيع المقبلة على الأرجح.
مشاركة :