القرآن كتاب الله القويم وحبله المتين، والذي أعجز العرب وهم سادة البلاغة والفصاحة يتضمن آيات قد تحتار فيها العقول، لما فيها من غموض.. ومن هذه الآيات قول الله تبارك وتعالى في سورة الفاتحة وهي أول سورة في المصحف: «اهدنا الصراط المستقيم» فما هو الصراط؟.. ومن الآيات المحكمة في القرآن نفسه تتضح الإجابة بأدق تفاصيلها.يقول صاحب كتاب «الطائفة الناجية المنصورة»: «الصراط المستقيم الذي أمرنا الله تعالى بسلوكه، ونهانا عن اتباع غيره هو دين الإسلام الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه ولم يقبل من أحد سواه ولا ينجو إلا من سلكه، ومن سلك غيره تشعبت عليه الطرق وتفرقت به السبل، قال الله تعالى: «وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله» (الأنعام. 153) وخط النبي صلى الله عليه وسلم خطاً ثم قال: «هذا سبيل الله مستقيماً» وخط خطوطاً عن يمينه وشماله، ثم قال: «هذه سبل ليس منها سبيل إلا عليه الشيطان يدعو إليه» ، ثم قرأ: «وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله». وقال صلى الله عليه وسلم:«ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط المستقيم جميعاً ولا تفرقوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلام والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم». السعادة الأبدية وقال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى»: و«الصراط المستقيم قد فسر بالقرآن وبالإسلام وطريق العبودية وكل هذا حق.. فهو موصوف بهذا وبغيره ف «القرآن» مشتمل على مهمات وأمور دقيقة ونواه وأخبار وقصص وغير ذلك إن لم يهد الله العبد إليها فهو جاهل بها ضال عنها وكذلك «الإسلام» وما اشتمل عليه من المكارم والطاعات والخصال المحمودة وكذلك «العبادة وما اشتملت عليه». فحاجة العبد إلى سؤال هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته وفلاحه؛ بخلاف حاجته إلى الرزق والنصر فإن الله يرزقه فإذا انقطع رزقه مات والموت لا بد منه فإذا كان من أهل الهدى به كان سعيداً قبل الموت وبعده وكان الموت موصلاً إلى السعادة الأبدية؛ وكذلك النصر إذا قدر أنه غلب حتى قتل فإنه يموت شهيداً فتبين أن الحاجة إلى الهدى أعظم من الحاجة إلى النصر والرزق؛ بل لا نسبة بينهما». توضيح قرآني وقد جاء توضيح معنى الصراط في قوله تبارك وتعالى عنه في سورة الأنعام: «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألاَّ تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون) 151» (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدّه وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون) 152 (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون). 153 ( وكأن ما ذكر في هذه الآيات هو إشارة لمعرفة هذا الصراط.. ويقول الشعراوي في خواطره حول هذه الآيات، ننظر في هذه الآيات فلا نجد شيئاً من المحرمات من الأطعمة التي بها قوام الحياة، ولكن نجد فيها محرمات إن اتبعناها نهدر القيم المعنوية التي هي مقومات الحياة الروحية، إنها مقومات الحياة من القيم «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم». أمهات المسائل «والأداء القرآني هنا يأخذ لفظ «تعال» بفهم أعمق من مجرد الإقبال، فكأن الحق يقول: أقبل عليّ إقبال من يريد العلو في تلقي الأوامر. فأنت تقبل على أوامر الله لتعلو وترتفع عن حضيض تشريع البشرية؛ ويتابع سبحانه: «ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون» و«الوصية» لا تكون إلا للأمور المهمة التي لا تستقيم الحياة إلا بالقيام بها، إنها في أمهات المسائل التي لا يصح أن نغفلها. وركز كل مبادئ الدين في قوله تعالى: ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون». «و«وصاكم» غير شرّع؛ فشرع تأتي بكل التشريعات وما فيها من تفاصيل صغيرة، والوصية تضم أمهات المسائل في التشريع. والعقل يجب أن يسع المسألة من أولها إلى آخرها؛ فلو استعملت عقلك في كل منهي عنه، أو في كل مأمور به في الآية فستجد التعقيل يعطيك التوازن في القرار، وقد ختم الحق الأشياء الخمسة التي ذكرها في هذه الآية ب «ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون». وهذه الأوامر متفق عليها في جميع الرسالات وفي جميع الأديان، فكان يجب أن يقول: «ذلكم وصّاكم بها»، لكنه قال: «وصّاكم به» ، فكأن أوامر الله ونواهيه أمر واحد متلازم تتمثل كلها في: التزام ما أمر الله به، واجتناب ما نهى الله عنه». وهكذا نجد في الآيات الكريمة تسع وصايا خمساً منها قال فيها جل جلاله: «لعلكم تعقلون»، وأربعاً قال فيها: «لعلكم تذّكرون». أما الوصية العاشرة فهي قوله سبحانه وتعالى: «وأن هذا صراطي..» أي أنه ختم الوصايا التسع بهذا القول، لأن الصراط المستقيم يشمل الوصايا التسع السابقة، ويشمل كل ما لم يذكر هنا.
مشاركة :