«رسائل التشاؤم فعل لا أخلاقي»، عبارة بسيطة ودالة، تبعث بها الروائية المصرية رضوى عاشور إلى القارئ عبر سطور كتابها الصادر أخيراً «أثقل من رضوى... مقاطع من سيرة ذاتية» - دار «الشروق»، القاهرة. وعلى رغم رسائل المقاومة والتفاؤل التي يبثها الكتاب، تستهل صاحبة «الطنطورية»، و «ثلاثية غرناطة»، صفحات سيرتها باعتذار من القارئ الافتراضي: «عليَّ أن أعترف بالذنب لإشراكك في كل هذه التفاصيل... لكن كيف أكفِّر عن ذنبي»؟». ربما لأنها كانت تخشى عزوفاً محتملاً عن مواصلة قراءة مقاطع جاءت في معظمها حزينة وموجعة لكنها محمّلة بطاقة إيجابية محرضة على مواصلة حياة ترى صاحبة السيرة أنها «تؤطر الموت. تسبقه وتليه، وتفرض حدوده. تحيطه من الأعلى والأسفل، ومن الجانبين». تمزج عاشور في هذه المقاطع تجربتي الثورة والمرض الذي ظلت تواجهه طوال السنوات الثلاث الأخيرة، وتتأمل فعل الكتابة بوصفه «محاولة لاستعادة إرادة منفية»، وتحكي عن الجامعة و «ميدان التحرير» والشهداء، فتقول: «حين يراودني اليأس أقول لنفسي لا يصح ولا يجوز، لأنني من حزب النمل، من حزب قشة الغريق. أتشبث بها ولا أفلتها أبداً من يدي». هنا حوار معها: > ممارسة فعل الكتابة، هل تتغير وتتطور بمرور الزمن لتصبح على غير ما كانت عليه في البدايات؟ - نعم تغيّر هذا الشكل وتطوّر. في البدايات، كانت تسبق الكتابة فكرةٌ ما أو تصورٌ لمشاهد أو شخصيات، أو مسار لأحداث، أعني تصوراً مسبقاً قد أنتبه أثناء الكتابة الى أنني أخرج عليه ولا ألتزم به. في السنوات الأخيرة يتم الأمر في شكل مختلف. فالرواية على سبيل المثال لا تأتي إلا بمشهد أو إيقاعٍ ما، أو درجةٍ من الصوت تفتح الباب، للكتابة. يفاجئني مشهد أو شخصية يتعين عليَّ أن أنصت اليها وأتتبعها. وحين أغلق الملف الخاص بالنص الذي أكتبه وأنهي عمل اليوم، لا تكون لديّ أية فكرة عن الخطوة التالية، أدخل إلى فراشي في حالة من الإعياء، كأنني مصابة بتسمّم كتابة – على طريقة التسمم بالنيكوتين الذي يصيب بعض المدخنين حين يسرفون في التدخين. أُغلق الكومبيوتر. في اليوم التالي أقرأ ما كتبت فيأتي المخزون تلقائياً ويتشكّل على شاشة الكومبيوتر. > إذاً فالمخزون في الوعي واللاوعي هو الذي يُشكّل النص؟ - نعم، وسأعطيك مثلاً محدداً. كتبتُ ذات يوم في مطلع رواية «سُراج»: «آمنة تخشى البحر، ولكنها تكذب على قلبها». وبدا هذا غريباً لأنني لا أعرف من هي «آمنة»، ولماذا تخشى البحر، وما معنى أنها تكذب على قلبها. تتحول الكتابة إلى إنصات وتعرّف ومتابعة لحكاية «آمنة». > في «أثقل من رضوى...»، لماذا وقع اختيارك على حيز زمني يبدأ في 2010 وينتهي في 2013؟ - دوافع الكتابة أمر معقّد تتعدد عناصره ويصعب اختزاله في إجابة مختصرة. ربما كانت معايشتي لمرض أخي واستعداده للرحيل عنصراً في رغبتي في كتابة سيرة ذاتية، أو هذا ما بدا لي. رحل أخي، ثم أمي، وتوالت مستجِدّات تخص وضعي الصحي ووضع البلد، فوجدتُ نفسي أكتب هذه المقاطع. ليست سيرة ذاتية مكتملة، بل مقاطع منها. > لكنك في هذه المقاطع تغزلين تجربتَي المرض والثورة، فضلاً عن العمل الأكاديمي، وحكايات عن الأسرة والأصدقاء. لحظات متداخلة بين اليوم والأمس، كل هذا جاء في مواجهة ذاكرة بشرية معرّضة للنسيان، وللخلط وأحياناً للخداع... كيف تعاملت مع الأمر؟ - الذاكرة تلتف وتتحايل، وتُصدِّر وتُسقِط، فهي لعوب ومراوغة وإن كانت رسائلها جادة، ولها منطق، ومنطقها كاشف ودال. ولكن الذاكرة في هذا النص ليست سوى عنصر من عناصره، لأن الماضي يدخل النص في صفحات محدودة، أما باقي النص ففيه شهادتي على تجارب عايشتُها قبل شهور من الكتابة، أخوض فيها وأصفها وأتأملها وأعلق عليها. > أحياناً يسقط كاتب السيرة الذاتية بعض الأحداث أو يصمت عنها، سواء في شكل متعمد أو غير متعمد. هل ثمة قواسم مشتركة بين السيرة الذاتية والاعتراف؟ - الانتقاء، والإبراز والإسقاط من سمات الكتابة إجمالاً وليس فقط السيرة الذاتية. ففي النهاية هناك قول ما يحكم الكتابة وشكلٌ مُحكم تتطلبه، لا يسمح بأن تكتب كل ما لديك وإلا كان نصك هلامياً مشتتاً، حتى المسكوت عنه في النص دال ويُساهم في معناه. وهناك أنواع متعددة من أشكال السيرة الذاتية، منها ما يقترب من الاعترافات، أو اليوميات أو المذكرات، ومنها ما يقدم تجربة حياة في تسلسلها الزمني أو يتحرك حركة مكوكية بين الأماكن والأزمنة. باختصار السيرة الذاتية جنس أدبي قائم بذاته له نماذج عدة ومتباينة. > وماذا عن الخيال بصفته ركناً أساسياً من أركان كتابة السيرة الذاتية من دونه تخرج من كونها فناً أدبياً يتذوقه المتلقي، هل الأمر يتعلق بالضرورة الفنية، أم هناك أسباب أخرى؟ - الخيال ركن أساس من أي كتابة، والسيرة الذاتية كتابة وإن لم تعتمد كالرواية مثلاً على شخصيات أو مشاهد متخيّلة. هنا يصبح دور الخيال مختلفاً، لا يختلق الشخصيات والمشاهد بل يختار ما يكتب عنه، ويُنظِّم هذه المادة، وما تستدعيه من الروافد والتداعيات، يشكل منها بنياناً دالاً له جمالياته. > لكن هذا البنيان، وبخاصة في العالم العربي، محكوم بقيود وموانع سياسية واجتماعية، إلى أي درجة وُفّق الكاتب العربي في كتابة سيرة ذاتية وفق شروطها؟ - في السيرة الذاتية تتحدثين عن نفسك، فأنت الراوية والمرويّ عنها. أنت الذات التي تتحدث، وأنت موضوع الحديث، هي تجربة الأنا وسياقاتها المتعددة، وهناك فارق هائل بين الحديث عن الذات و «الستربتيز». «الستربتيز» قد يكون فُرجة مثيرة، أما السيرة في أفضل حالاتها، فهي كشف عن الذات المشتبكة دوماً مع واقع مركّب. السيرة في رأيي، نص فني وتوثيق تاريخي، شهادة على زمان ومكان يقدمها فرد معايش لهذا الزمان والمكان. تجمع بين الحديث الحميم والتعليق على المشترك من القضايا، وتأملها والتدخل فيها. > تختمين كتابك بسطر دالٍ: «هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة، ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا»، وكأني بك تحرضين القارئ على التفاؤل والتمسك بالحياة في مواجهة الفناء؟ - قلت في هذا النص إن في نقل رسالة يأس أمر غير أخلاقي. أتشبث بالأمل وإن كان أملاً هشاً يشبه قشة الغريق. ثم إنني بالفطرة والوراثة عنيدة لا أرفع الراية البيضاء بسهولة. أحتاج الى الأمل وأتمسك به، هذه واحدة، أما الأمر الثاني فإن هذا الأمل ليس تفاؤلاً ساذجاً على طريقة النهايات السعيدة للأفلام العربية القديمة، بل هو تشبث بأمل نبحث عنه ونركض وراءه حتى نمسك به لأننا نحتاجه. > المزج بين المتخيل والوثائقي ملمح رئيس في كتاباتك، منذ بداية مشروعك الأدبي... لماذا تبدين مشغولة بهذا الأمر؟ - لا أدري ما الذي دفعني إلى ذلك. ربما أن المرء يكتب ما يمثّله ويعبّر عنه، وأنا أهتم بالتاريخ لا بمعنى ما حدث في الماضي فحسب، بل بالواقع بوصفه واقعاً تاريخياً تشكله عناصر متشابكة فاعلة متفاعلة. ثم لا تنسي أنني باحثة وأي ناقد فاحص لعملي الفني سيرى أثر هذا التكوين المزدوج على نصوصي. تتضافر العناصر الفنية وشطح الخيال واللعب وغواية اللغة بمسعى الباحثة إلى التنقيب والتوثيق والمحاججة الضمنية. > وكيف تتعاملين مع صعوبات قد تواجه المبدع عندما يشرع في الكتابة عن فترات تاريخية لم يعشها؟ - هي مهمات أكثر منها «صعوبات». على الكاتب، إن أراد أن يكتب عن فترة تاريخية لم يعشها، أن يتعرّف إليها ويعايشها ويألف تفاصيلها وإيقاعاتها. أذكر أنه أثناء الإعداد لـ «ثلاثية غرناطة» استفدت كثيراً من خرائط المدن، واستفدت من الاطلاع على وثائق الزواج والطلاق والبيع والشراء، واستفدت من بحث ممتاز عن بائعات الهوى في فالينسيا (بلنسية) في القرن السادس عشر. وقرأت بنهم بحثاً آخر عن المطبخ في غرناطة في القرن الخامس عشر. وقرأت عن المنامات والخرافات التي شاعت بين الأهالي عند الانكسار. > فلسطين والصراع العربي- الإسرائيلي حاضران بقوة في نصوصك الروائية «الطنطورية»، و «أطياف»، و «قطعة من أوروبا»... في ظل معطيات اللحظة الراهنة كيف تنظرين إلى مستقبل هذا الصراع؟ - الصراع قائم وممتد ما دامت هناك دولة فصل عنصري تواصل احتلالها الاستيطاني والعدوان على محيطها وفي المتوسط ومنذ إنشاء الدولة، تشن إسرائيل حرباً كل سبع سنوات. حين نواصل مقاومتنا لها لا نقتصر على إحقاق الحق المنهوب، ولكننا أيضاً نحمي أنفسنا من حالة عدوان متواصل ومستمر. > منذ بدايات القرن العشرين والروايات التاريخية تحظى بأهمية خاصة، كيف تتعاطين مع مصطلح «رواية تاريخية»؟ ولماذا تحاط هذه الرواية بإشكالات عدة قياساً بغيرها؟ - كانت لمصطلح الرواية التاريخية سمعة سيئة، إذ أول ما يطفو على الذهن روايات جورجي زيدان في عالمنا العربي وروايات سير والتر سكوت للقارئين بالإنكليزية وغيرها من الروايات. ثم تطور هذا المفهوم وتداخل بمفاهيم أخرى حين أخذت تظهر التنظيرات حول الجنس الروائي وما يجمعه من قواسم مشتركة بالتاريخ. وعندما قدم الروائيون العرب وغير العرب نصوصاً كبيرة القيمة يصعب ألا نعتبرها روايات تاريخية، تغيرت هذه السمعة. > كثير من الكتاب حاولوا التجريب، وإزاحة الحدود بين الأنواع الأدبية... «تقارير السيدة راء» عمل يتسم بخصوصية على مستويي الشكل والمضمون، وعلى رغم هذا لم يلق الانتباه الكافي، هل كنت مشغولة بقضية التجريب وقت كتابة العمل؟ - كتبت هذا النص وكنت فرحة به، إذ بدا لي طازجاً وجديداً يحاول توظيف التقرير كشكل فني، وهو نص فكه وحزين في الوقت نفسه. في السنوات الأخيرة استوقفني أن شباباً كثراً يحبون هذا النص. لا أنشغل بالتجريب في ذاته، بل المادة التي تلح عليّ بتوصيلها تدفع باتجاه شكل مغاير يفاجئني غالباً. > اللغة ينظر إليها البعض كأداة توصيل، وتنظرين إليها نظرة مختلفة. ألهذا السبب كنت حريصة على تعددية لغوية بدت واضحة في «ثلاثية غرناطة»؟ - النص الأدبي بنيان لغوي. ثم إنه نص أدبي يعتمد جزء من جمالياته على اللغة والقدرة على تكثيفها. لا يروقني من يستخدمون اللغة كالباص لينقلهم من مكان إلى آخر، الكثافة اللغوية وتعدد مستوياتها وسلوكها المركب وهي تختلس النظر هنا وهناك وتحيل وتشير وتلمّح وتغمز وتُلَوِّح، هي جزء أصيل من جماليات النص الأدبي. > لكن، وعلى جانب آخر، يبدو لي أن شغفك باللغة يتعلق بتراث لغوي مدهش تملكين ناصيته بجدارة... - تراثنا اللغوي هو نعمة وربما يكون نقمة أحياناً لأنه يفرض مسؤوليات ثقيلة على الكاتب، فهو يقيَّم في ضوئها. أما المستويات اللغوية في «ثلاثية غرناطة» فهي أمر ضروري لأن الشخصية الرئيسة في النص، على ما أظن، هي هذه اللغة التي ستتم محاربتها حد الانقراض. > تعتقدين أن كل كتابة تحمل مقداراً من الأيديولوجيا وعلى جانب آخر هناك من يقر بأن الأيديولوجيا تقتل الإبداع، كيف يستقيم الأمر؟ - الأيديولوجيا هي موقف من الوجود والواقع والنفس والآخرين، هي فكر وفلسفة تنظم علاقة الإنسان بالكون، حقيقية أحياناً ووهمية في أحيان أخرى. ولكن الأيديولوجيا تبقى كامنة في النص، تكسوها تفاصيل كثيرة وتوقيت للبداية والنهاية وبنية دالة. أما إن ظهرت في شكل مباشر؛ عارية من كسوتها، فيسقط النص في مباشرة ممجوجة. > الناقدة والأديبة، أيهما أفاد من الآخر؟ - الكتابة في رأيي هي نتاج الإنسان بكليته، مشاعره ومعارفه، وتجاربه، رصيده من الخبرات الموعيّ بها وغير الموعيّ بها. وكل كاتب في تقديري يمارس مقداراً من النقد، فهو القارئ الأول لعمله وهو، بعدَ الدفق الإبداعي في البداية، يعيد النظر وينظم مادته ويحذف ويضيف إلى آخره. > وهل يمارس النقد سلطة ما على الإبداع؟ - نعم، للمؤسسة النقدية سلطتها وقد تكون نافعة ومنصفة أو مستبدة وغاشمة. وأحياناً تتحلّى بالجرأة وتساند الجديد، وفي أحيان أخرى تركن إلى الكسل والبلادة، فلا يستوقفها الجديد بل تهاجمه وهذا أمر شائع ومعروف في تاريخ الأدب. > كيف تقرئين الحاصل في مصر الآن؟ وهل تحققت شعارات الثورة؟ - المشهد مقلق وحزين ويدعو إلى الغضب، ويطالبنا بالعمل المتواصل من أجل تحقيق مطالبنا. ولا بد من القول إن أياً من شعارات الثورة لم يتحقق، وأن القبضة القمعية تتزايد يوماً يعد يوم. > ما هو المشروع الأدبي الذي يشغلك الآن؟ - أكتب الجزء الثاني من «أثقل من رضوى». عندما قرأت الكتاب مطبوعاً انتبهت إلى أنني كنت قلقة من اضطراري لجولة علاجية جديدة وبدا لي واضحاً أنني كنت في عجلة من أمري فأنهيته بسرعة. قطعت شوطاً لا بأس به في هذا الجزء الثاني الذي عنونته بـ «الصرخة»، وهو عنوان موقت، لا أدري إن كنت سأبقيه بعد انتهائي من العمل.
مشاركة :